ولكم في القصاص حياة

السؤال: سائل يسأل عن الفروق التي بين قوله تعالى في الآية الكريمة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [سورة البقرة: الآية 179]، وقول العرب: "القتل أنفى للقتل".

الإجابة

الإجابة: قال في (تفسير المنار) (1): وقد بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يُسامى، وعبارة لا تحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن، التي تُعْجِزُ في التحدي فرسان البيان. ومن دقائق البلاغة فيها: أن جعل فيها الضد متضمنا لضده -وهو القصاص- وعَرَّفَ القصاص ونَكَّر الحياة؛ للإشعار بأن في هذا الجنس -من الحِكم- نوعا من الحياة عظيما لا يقدر قدره، ولا يجهل سره، ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وكانوا ينقلون كلمة في معناها عن بعض بلغاء العرب يعجبون من إيجازها في بلاغتها، ويحسبون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها، وهي قولهم: "القتل أنفى للقتل". وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، ويفصح به اللسان؛ لأنها قيلت قبلها كلمات أخرى في معناها لبلغائهم كقولهم: "قتل البعض إحياء للجميع"، وقولهم: "أكثروا القتل ليقل القتل"، وأجمعوا على أن كلمة: "القتل أنفى للقتل" أبلغها، وأين هي من كلمة الله العليا وحكمته المثلى؟

ثم نقل عن الإمام الرازي بيان التفاوت بين الآية الكريمة وتلك الكلمة من ستة أوجه منها: كونها أخصر؛ لأن قوله: {وَلَكُمْ} لا يدخل في هذا الباب؛ إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك يعني: فلا تدخل في حساب الحروف.

وبعد أن سرد عبارة الرازي قال: وذكر السيد الألوسي هذه الوجوه باختيار أدق، وزاد عليها نحوها، فقال:

(الأول): قلة الحروف؛ فإن الملفوظ هنا -أي: في الآية- عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة، وهناك أربعة عشر حرفا.

(الثاني): الاطراد؛ إذ في كل قصاص حياة، وليس كل قتل أنفى للقتل، فإن القتل ظلما أدعى للقتل.

(الثالث): ما في تنوين (حياة) من النوعية أو التعظيم.

(الرابع): صنعة الطباق بين القصاص والحياة؛ فإن القصاص تفويت الحياة، فهو مقابلها.

(الخامس): النص على ما هو المطلوب بالذات -أعني: الحياة-؛ فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته.

(السادس): الغرابة من حيث جعلُ الشيء فيه حاصلا في ضده، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق؛ فكأن القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات.

(السابع): الخلو عن التكرار مع التقارب؛ فإنه لا يخلو عن استبشاع، ولا يُعَدُّ من رد العَجُزٍ على الصَّدْرِ حتى يكون محسنا.

(الثامن): عذوبة اللفظ وسلاسته، حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة؛ إذ ليس في قولهم حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة؛ لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام.

(التاسع): عدم الاحتياج إلى الحيثية، أي: التعليل، وقولهم يحتاج إليها.

(العاشر): تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك، وقولهم لا يشمله.

(الحادي عشر): خلوه من (أَفعل) الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا.

(الثاني عشر): اشتماله على ما يصلح للقتال، وهو الحياة بخلاف قولهم؛ فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لَمِمَّا يليق بهم.

(الثالث عشر): خلوه مما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه، وهو محال... إلى غير ذلك. فسبحان من علت كلمته وبهرت آيته.أ.ه.

___________________________________________

1 - (تفسير المنار) (2/130) ط.دار المنار.