فصل في تزكية النفس

السؤال: فصل في تزكية النفس

الإجابة

الإجابة: فَصْل:

في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا‏}‏‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏، و‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏‏.

‏‏ قال قتادة وابن عيينة وغيرهما‏:‏ قد أفلح من زكى نفسه بطاعة اللّه، وصالح الأعمال‏.

‏‏ وقال الفراء والزجاج‏:‏ قد أفلحت نفس زكاها اللّه، وقد خابت نفس دساها اللّه‏.‏

وكذلك ذكره الوالبي، عن ابن عباس وهو منقطع‏.‏

وليس هو مراد من الآية؛ بل المراد بها الأول قطعًا لفظًا ومعنى‏.‏

أما اللفظ فقوله‏:‏ من زكاها اسم موصول ولابد فيه من عائد على ‏{‏‏مّن‏}‏‏ فإذا قيل‏:‏ قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان ضمير الشخص في زكاها يعود على{مّن‏}،، هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال‏:‏ قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه‏.

‏‏ وأما إذا كان المعنى‏:‏ قد أفلح من زكاه اللّه، لم يبق في الجملة ضمير يعود على ‏{‏‏مّن‏} فإن الضمير على هذا يعود على اللّه، وليس هو ‏{‏‏مّن‏}‏‏ وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على ‏{‏‏مّن}‏‏ لا ضمير الفاعل، ولا المفعول‏.‏

فتخلوا الصلة من عائد وهذا لا يجوز‏.

‏‏ نعم، لو قيل‏:‏ قد أفلح من زكى اللّه نفسه، أو من زكاها اللّه له، ونحو ذلك صح الكلام، وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب‏.‏ وهو لم يقل‏:‏ قد أفلحت نفس زكاها‏.‏ فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة، بل قال‏:‏ ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا‏}‏‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏، فالجملة صلة ل ‏{‏‏مّن‏}‏‏ لا صفة لها‏.

‏‏ ولا قال أيضًا‏:‏ قد أفلحت النفس التي زكاها، فإنه لو قيل ذلك، وجعل في ‏{‏‏زّكَّاهّا ‏}‏‏ ضمير يعود على اسم اللّه صح، فإذا تكلفوا، وقالوا‏:‏ التقدير ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا‏}‏‏ هي النفس التي زكاها، وقالوا‏:‏ في زكى ضمير المفعول يعود على ‏{‏‏مَنْ‏}‏‏ وهي تصلح للمذكر والمؤنث والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث، وتأنيثها غير حقيقي؛ ولهذا قيل‏:‏ ‏{‏‏قّدً أّفًلّح}‏‏ ولم يقل‏:‏ قد أفلحت، قيل لهم‏:‏ هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة، فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن‏.‏ ‏.‏‏.‏ على أن المراد لنا، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ‏}‏‏ ‏[‏يونس‏:‏ 42‏]‏، ونحو ذلك‏.

‏‏ وأما هنا فليس في لفظ ‏{‏‏مَنْ‏}‏‏، وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة، فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته، فإن مثل هذا مما يصان كلام اللّه عز وجل عنه، فلو قدر احتمال عود ضمير{زَكَّاهَا‏}‏‏ إلى نفس وإلى ‏{‏‏مَنْ‏}‏‏، مع أن لفظ ‏{‏‏مَنْ‏}‏‏ لا دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر، لعدم دلالته على التأنيث، فإن الكلام إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما، ومن تكلف غير ذلك، فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن منزه عن ذلك، والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام إلى مالا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني‏؟‏‏!‏ فقد أخبر اللّه أنه يلهم التقوى والفجور‏.‏

ولبسط هذا موضع آخر‏.

‏‏ والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم، والتحذير من تدسيتها، كقوله‏:‏ ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى اللّه نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهي، ولا ترغيب ولا ترهيب‏.‏

والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول‏:‏ من جعله اللّه مؤمنًا، بل يقول‏:‏ ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏، ‏{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏‏ إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام اللّه‏؟‏‏!‏ ألا ترى أنه في مقام الأمر، والنهي، والترغيب، والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد، والوعيد، والمدح، والذم، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم، إما بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان، والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأما في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم‏.

‏‏ كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى‏}‏‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 21‏]‏، فهذا مناسب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏‏وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى‏.‏

والمقصود ذكر التزكية قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا‏}‏‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ‏}‏‏‏[‏النور‏:‏ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى‏}‏‏‏[‏عبس‏:‏ 7‏]‏‏.

‏‏ وأصل الزكاة الزيادة في الخير‏.

‏‏ ومنه يقال‏:‏ زكا الزرع، وزكا المال إذا نما‏.‏ ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكوا حتى يزال عنها ما يناقضها ولا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها‏.

‏‏ قال الزجاج‏:‏{دّسَّاهّا‏}‏‏ جعلها ذليلة حقيرة خسيسة، وقال الفراء‏:‏ دساها؛ لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله، قال ابن قتيبة‏:‏ أي أخفاها بالفجور والمعصية، فالفاجر دس نفسه، أي قمعها وخباها، وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها، واللئام تنزل الأطراف والوديان‏.

‏‏ فالبر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك، فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه اللّه وشرح صدره، والفجور، والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق‏.‏

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح، فقال "مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما‏.‏ فجعل المتصدق كلما هم بصدقة اتسعت وانبسطت عنه، حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة، قلصت، وأخذت كل حلقة بمكانها، وأنا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه، فلو رأيتها يوسعها فلا تتسع‏"‏‏ أخرجاه‏.‏

وإخفاء المنزل وإظهاره تبعًا لذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ‏}‏‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏ 59‏]‏‏.‏

فهكذا النفس البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من الصوف المبتل، والنفس البرة التقية النقية، التي قد زكاها صاحبها فارتفعت، واتسعت، ومجدت، ونبلت فوقت الموت تخرج من البدن تسيل، كالقطرة من في السقاء، وكالشعرة من العجين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق‏.‏ وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق‏.

‏‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ‏}‏‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏‏.‏

وهذا مثل البخيل والمنفق‏.

‏‏ قال‏:‏ ‏{‏‏فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ‏}‏‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏ 521‏]‏‏.

‏‏ وقال‏:‏ ‏{‏‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏‏.‏

وقال له في سياق الرمي بالفاحشة، وذم من أحب إظهارها في المؤمنين، والمتكلم بما لا يعلم‏:‏ ‏{‏‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا‏}‏‏الآية‏[‏النور‏:‏ 21‏]‏‏.‏

فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال‏:‏ ‏{‏‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏‏.

‏‏ وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس، فإنها تعلم أن السيئات مذمومة ومكروه فعلها، ويجاهد نفسه إذا دعته إليها، إن كان مصدقًا لكتاب ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا التصديق والإيمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة، فتزكو بذلك أيضًا، بخلاف ما إذا عملت السيئات فإنها تتدنس وتندس، وتنقمع، كالزرع إذا نبت معه الدغل‏.

‏‏ والثواب إنما يكون على عمل موجود، وكذلك العقاب‏.

‏‏ فأما العدم المحض، فلا ثواب فيه ولا عقاب، لكن فيه عدم الثواب والعقاب، واللّه سبحانه أمر بالخير، ونهى عن الشر، واتفق الناس على أن المطلوب بالأمر فعل موجود، واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي، أم عدمي‏؟‏ فقيل‏:‏ وجودي، وهو الترك، وهذا قول الأكثر‏.

‏‏ وقيل‏:‏ المطلوب عدم الشر، وهو ألا يفعله‏.‏

والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر، فلا بد ألا يقربه ويعزم على تركه، ويكره فعله، وهذا أمر وجودي بلا ريب، فلا يتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه‏‏ وجودي، لكن قد لا يكون مريدًا له كما يكره أكل الميتة طبعًا، ومع ذلك، فلابد له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع، وهذا قدر زائد على كراهة الطبع، وهو أمر وجودي يثاب عليه، ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب المحرم، ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان‏.‏

وقد غمر إيمانه حكم طبعه، فهذا أعلى الأقسام الثلاثة، وهذا صاحب النفس المطمئنة، وهو أرفع من صاحب اللوامة التي تفعل الذنب، وتلوم صاحبها عليه، وتتلوم وتتردد، هل تفعله أم لا‏؟‏‏!‏ وأما من لم يخطر بباله أن اللّه حرمه، ولا هو مريد له، بل لم يفعله، فهذا لا يعاقب ولا يثاب، إذ لم يحصل منه أمر وجودي يثاب عليه، أو يعاقب فمن قال‏:‏ المطلوب ألا يفعل، إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب، فقد صدق، وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم، فليس كذلك، والكافر إذا لم يؤمن باللّه ورسوله، فلا بد لنفسه من أعمال يشتغل بها عن الإيمان، وترك الأعمال كفر يعاقب عليها‏.‏

ولهذا لما ذكر اللّه عقوبة الكفار في النار، ذكر أمورًا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد والإيمان أعظم ما تزكو به النفس، وكان الشرك أعظم ما يدسيها، وتتزكى بالأعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف‏.‏

قالوا‏:‏ في ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏‏‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏، تطهر من الشرك، ومن المعصية بالتوبة، وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة‏:‏ صدقة الفطر‏.

‏‏ ولم يريدوا أن الآية لم تتناول إلا هي، بل مقصودهم‏:‏ أن من أعطى صدقة الفطر، وصلى صلاة العيد فقد تناولته وما بعدها، ولهذا كان يزيد بن حبيب، كلما خرج إلى الصلاة خرج بصدقة، ويتصدق بها، قبل الصلاة، ولو لم يجد إلا بصلًا‏.

‏‏ قال الحسن‏:‏ ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏‏ من كان عمله زاكيًا، وقال أبو الأحوص‏:‏ زكاة الأمور كلها، وقال الزجاج‏:‏ تزكى بطاعة اللّه عز وجل، ومعنى الزاكي‏:‏ النامي الكثير‏.

‏‏ وكذلك قالوا في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏.‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}‏‏‏[‏فصلت‏:‏ 6- 7‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يشهدون أن لا إله إلا اللّه، وقال مجاهد‏:‏ لا يزكون أعمالهم أي ليست زاكية، وقيل لا يطهرونها بالإخلاص، كأنه أراد واللّه أعلم أهل الرياء، فإنه شرك‏.‏

وعن الحسن‏:‏ لا يؤمنون بالزكاة، ولا يقرون بها‏.

‏‏ وعن الضحاك‏:‏ لا يتصدقون، ولا ينفقون في الطاعة، وعن ابن السائب‏:‏ لا يعطون زكاة أموالهم‏.‏

قال‏:‏ كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون‏.‏ والتحقيق أن الآية تتناول كل ما يتزكى به الإنسان من التوحيد والأعمال الصالحة‏.‏

كقوله‏:‏ ‏{‏‏هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى‏}‏‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى‏}‏‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏، والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ ‏{‏يؤتي‏}‏ فعل متعد‏.‏

قيل‏:‏ هذا كقوله‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 14‏]‏، وتقدم قبلها أن الرسول دعاهم، وهو طلب منه، فكان هذا اللفظ متضمنًا قيام الحجة عليهم بالرسل، والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم‏.

‏‏ ومما يليق‏:‏ أن الزكاة تستلزم الطهارة؛ لأن معناها معنى الطهارة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ‏}‏‏ من الشر‏{‏‏وَتُزَكِّيهِمْ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏ بالخير قال صلى الله عليه وسلم "اللَّهم طهرني بالماء والبرد والثلج‏"‏‏ كان يدعو به في الاستفتاح وفي الاعتدال من الركوع، والغسل‏.

‏‏ فهذه الأمور توجب تبريد المغسول بها، و‏[‏البرد‏]‏ يعطي قوة وصلابة، وما يسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان دمع السرور باردًا، ودمع الحزن حارًا؛ لأن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها، وما يسرها يوجب فرحها وسرورها وذلك مما يبرد الباطن‏.

‏‏ فسأل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب‏.

‏‏ وقوله‏:‏ بالثلج والبرد والماء البارد‏:‏ تمثيل بما فيه من هذا الجنس، وإلا فنفس الذنوب لا تغسل بذلك، كما يقال‏:‏ أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك‏.‏

ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى الله عليه وسلم "الآن برّدت جلدته"‏‏، ويقال‏:‏ برد اليقين، وحرارة الشك، ويقال‏:‏ هذا الأمر يثلج له الصدر، إذا كان حقًا يعرفه القلب ويفرح به، حتى يصير في مثل برد الثلج، ومرض النفس‏:‏ إما شبهة وإما شهوة أو غضب، والثلاثة توجب السخونة، ويقال لمن نال مطلوبه‏:‏ برد قلبه، فإن الطالب فيه حرارة الطلب‏.

‏‏ وقوله‏:‏ ‏{‏‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ‏}‏‏‏:‏ دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة، فإنه قاله بعد قوله‏:‏ ‏{‏‏وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا‏}‏‏الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله‏:‏ ‏{‏‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا‏}‏‏الآيات ‏[‏النور‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ‏}‏‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏‏.‏

فأمرهم جميعًا بالتوبة في سياق ما ذكره؛ لأنه لا يسلم أحد من هذا الجنس‏.

‏‏ كما في الصحيح "إن اللّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا‏"‏‏ الحديث‏.‏

وكذلك في الصحيح‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ‏}‏‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏ نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إلا الجماع، ثم ندم فنزلت‏.

‏‏ ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف اللّه، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على إتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة للّه، وعملًا صالحًا، وثبت عنه أنه قال "المجاهد من جاهد نفسه في ذات اللّه‏"‏‏، فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلي جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد‏.

‏‏ كما قال "والمهاجر من هجر السيئات‏"‏‏‏.

‏‏ ثم هذا لا يكون محمودًا فيه، إلا إذا غلب، بخلاف الأول فإنه من‏{‏‏فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏‏‏[‏النساء‏:‏ 74‏]‏، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم"ليس الشديد بالصرعة‏.‏‏.‏ ‏.‏ ‏"‏‏ إلخ؛ وذلك لأن اللّه أمر الإنسان أن ينهي النفس عن الهوى، وأن يخاف مقام ربه، فحصل له من الإيمان ما يعينه على الجهاد، فإذا غلب كان لضعف إيمانه، فيكون مفرطًا بترك المأمور، بخلاف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى‏.

‏‏ فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به، ومع امتثال المأمور لا تفعل المحظور، فإنهما ضدان‏.

‏‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ}‏‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42، الإسراء‏:‏ 65 ‏]‏ فعباد اللّه المخلصون لا يغويهم الشيطان، والغي خلاف الرشد، وهو اتباع الهوى، فمن مالت نفسه إلى محرم، فليأت بعبادة اللّه كما أمر اللّه مخلصًا له الدين، فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ خشية ومحبة، والعبادة له وحده، وهذا يمنع من السيئات‏.

‏‏ فإذا كان تائبًا، فإن كان ناقصًا، فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع، فهو كالترياق الذي يدفع أثر السم، ويرفعه بعد حصوله، وكالغذاء من الطعام والشراب، وكالاستمتاع بالحلال الذي يمنع النفس عن طلب الحرام، فإذا حصل له طلب إزالته، وكالعلم الذي يمنع من الشك، ويرفعه بعد وقوعه، وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع المرض، وكذلك ما في القلب من الإيمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به‏.

‏‏ وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه، ولا يحصل المرض إلا لنقص أسباب الصحة، كذلك القلب لا يمرض إلا لنقص إيمانه‏.

‏‏ وكذلك الإيمان والكفران متضادان، فكل ضدين‏:‏ فأحدهما يمنع الآخر تارة، ويرفعه أخرى، كالسواد والبياض‏.‏‏.‏ ‏.‏ حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاصلًا، كذلك الحسنات والسيئات والإحباط‏.‏‏.‏ ‏.‏ والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى الإيمان، وإن من مات عليها لم يكن‏.‏ ‏.‏‏.‏ الجبائي وابنه بالموازنة‏.‏

لكن قالوا‏:‏ من رجحت سيئاته خلد في النار، والموازنة بلا تخليد قول‏.‏‏.‏ ‏.‏ الإحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏‏الآية‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 88‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.

‏‏ وما ادعته المعتزلة مخالف لأقوال السلف، فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره، ولم يجعلهم كفارًا حابطي الأعمال، ولا أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين، والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على الغال، وعلى قاتل نفسه، ولو كانوا كفارًا ومنافقين لم تجز الصلاة عليهم‏.‏

فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله‏.

‏ وقال عمن شرب الخمر "لا تلعنه فإنه يحب اللّه ورسوله‏" وذلك الحب من أعظم شعب الإيمان‏.‏

فعلم أن إدمانه لا يذهب الشعب كلها، وثبت من وجوه كثيرة‏ "يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏"‏‏ ولو حبط لم يكن في قلوبهم شيء منه‏.

‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ‏}‏‏الآية‏[‏فاطر‏:‏ 32‏]‏‏.‏

فجعل من المصطفين‏.

‏‏ فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات، فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر‏؟‏ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة‏.‏

منهم من ينكره، ومنهم من يثبته، كما دلت عليه النصوص، مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى‏}‏‏ الآية‏[‏البقرة‏:‏ 264‏]‏‏.‏

دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وضرب مثله بالمرائي، وقالت عائشة‏:‏ ابلغي زيدًا أن جهاده بطل‏‏ الحديث‏.

‏‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏‏أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ‏}‏‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 2‏]‏، وحديث صلاة العصر ففي ذلك نزاع‏.

‏‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏محمد‏:‏ 33‏]‏ قال الحسن‏:‏ بالمعاصي والكبائر، وعن عطاء‏:‏ بالشرك والنفاق، وعن ابن السائب‏:‏ بالرياء والسمعة، وعن مقاتل‏:‏ بالمن‏.

‏‏ وذلك أن قومًا منوا بإسلامهم، فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تحبط الأعمال‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ لم يرد إلا إبطالها بالكفر‏.

‏‏ قيل‏:‏ ذلك منهي عنه في نفسه، وموجب للخلود الدائم، فالنهي عنه لا يعبر عنه بهذا، بل يذكره على وجه التغليظ‏.

‏‏ كقوله‏:‏ ‏{‏‏مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ‏}‏‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ ونحوها‏.}‏‏ واللّه سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطالا، ولم يسمه إحباطًا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏‏ الآية‏[‏محمد‏:‏ 34‏]‏‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ المراد إذا دخلتم فيها فأتموها، وبها احتج من قال‏:‏ يلزم التطوع بالشروع فيه‏.

‏‏ قيل‏:‏ لو قدر أن الآية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل، فإبطاله كله أولى، بدخوله فيها فكيف وذلك قبل فراغه لا يسمى صلاة ولا صومًا‏؟‏‏!‏ ثم يقال‏:‏ الإبطال يوجد قبل الفراغ أو بعده، وما ذكروه أمر بالإتمام، والإبطال هو إبطال الثواب، ولا نسلم أن من لم يتم العبادة يبطل جميع ثوابه، بل يقال‏:‏ إنه يثاب على ما فعل من ذلك‏.‏

وفي الصحيح حديث المفلس "‏‏الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال‏".



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء العاشر.