رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى

السؤال: رد الإمام أحمد على ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى

الإجابة

الإجابة: باب ما أنكرت الجهمية من أن الله كلم موسى

فقلنا:‏ لم أنكرتم ذلك؟ قالوا:‏ إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئاً فعبر عن الله، وخلق صوتاً فأسمعه، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين.‏

فقلنا:‏ هل يجوز أن يكون لمكون غير الله أن يقول:‏ يا موسى ‏{‏‏إِنِّي أَنَا رَبُّكَ‏}‏‏ ‏[‏طه:‏12‏]‏ أو يقول:‏ ‏{‏‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي‏}‏‏ ‏[‏طه:‏14‏]‏، فمن زعم أن ذلك غير الله فقد ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي أن الله كون شيئاً كأن يقول ذلك المكون:‏ يا موسى، إن الله رب العالمين ولا يجوز أن يقول:‏ إني أنا الله رب العالمين .‏

وقد قال الله جل ثناؤه:‏‏{‏‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً‏}‏‏ ‏[‏النساء:‏164‏]‏، وقال:‏ ‏{‏‏وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف:‏143‏]‏، وقال:‏‏{‏‏قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي‏}‏‏ ‏[‏الأعراف:‏144‏]‏ فهذا منصوص القرآن.‏

وأما ما قالوا:‏ إن الله لم يتكلم ولا يكلم، فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خَيْثمَةَ، عن عَدِيِّ بن حاتم الطائي، قال:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلا سيُكَلِّمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان"‏‏.‏

وأما قولهم:‏ إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم، وشفتين ولسان، فنقول:‏ أليس الله قال للسموات والأرض:‏ ‏{‏‏اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}‏‏ ‏[‏فصلت:‏ 11‏]‏ أتراها أنها قالت:‏ بجوف وفم وشفتين ولسان؟

وقال:‏ {‏‏وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ‏}‏‏ ‏[‏الأنبياء:‏79‏]‏ أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله تكلم كيف شاء، من غير أن نقول:‏ جوف ولا فم، ولا شفتان ولا لسان.‏

فلما خنقته الحجج قال:‏ إن الله كلم موسى، إلا أن كلامه غيره، فقلنا:‏ وغيره مخلوق؟ قال:‏ نعم‏‏ قلنا:‏ هذا مثل قولكم الأول، إلا إنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة، وحديث الزهري قال:‏ لما سمع موسى كلام ربه قال "يارب، هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال:‏ نعم يا موسى هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت‏"‏‏.‏

قال:‏ فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له:‏ صف لنا كلام ربك.‏ فقال "سبحان الله‏!‏ وهل أستطيع أن أصفه لكم؟‏!‏ قالوا:‏ فشبهه قال:‏ ‏سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله‏"‏‏.‏

وقلنا للجهمية:‏ من القائل يوم القيامة:‏ ‏{‏‏يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ‏}‏‏ ‏[‏المائدة:‏116‏]‏، أليس الله هو القائل؟ قالوا:‏ يُكَوِّنُ الله شيئاً فيعبر عن الله، كما كونه فعبر لموسى.‏

قلنا:‏ فمن القائل:‏‏{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف:‏6، 7‏]‏ أليس الله هو الذي يسأل ؟ قالوا:‏ هذا كله إنما يكون شيئاً فيعبر عن الله.‏

فقلنا:‏ قد أعظمتم على الله الفرية، حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم، ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان.‏

فلما ظهرت عليه الحجة قال:‏ إن الله قد يتكلم، لكن كلامه مخلوق.‏

قلنا:‏ قد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم؛ وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة علواً كبيراً.‏

بل نقول:‏ إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول:‏ إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاماً، ولا نقول:‏ إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً، ولا نقول:‏ إنه قد كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول:‏ إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول:‏ إنه قد كان ولاعظمة حتى خلق لنفسه عظمة، وذكر كلاماً طويلا في تقرير الصفات وأنها لا تنافى التوحيد.‏

ومما يشبه هذا أن الصفات التي هي من جنس الحركة، كالإتيان والمجيء والنزول، هل تتأول بمعنى مجىء قدرته وأمره ؟ على روايتين:‏

إحداهما:‏ هي بمعنى مجيء قدرته، وهي رواية حنبل في المحنة.‏

والثانية:‏ تُمَرُّ كسائر الصفات، وهي ظاهر المذهب المشهور عند أصحابنا.‏

ثم منهم من غلَّط حنبل، ومنهم من قال:‏ قاله أحمد إلزاماً لهم، ومنهم من جعله رواية خاصة كابن الزاغوني، وعمم ابن عقيل ذلك في سائر الصفات.‏

وهذا الأصل يتفرع في أكثر مسائل الصفات، لا سيما مسألة الكلام والإرادة، والصفات المتعلقة بالمشيئة، كالنزول والاستواء، وهو كان سبب وقوع النزاع بين إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، وبين طائفة من فضلاء أصحابه. ‏



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السادس.