الكلام بغير ذكر الله في المسجد

السؤال: ما حكم الكلام بغير ذكر الله في المسجد؟

الإجابة

الإجابة: إن المساجد إنما بنيت لذكر الله وإقامة الصلاة وقراءة القرآن، وهي أماكن رفع الله عنها ملك البشر وحررها من عبادة الأغيار، فلا يجوز فيها البيع ولا الشراء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يبيع أو يبتاع في المساجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك"، وكذلك لا تطلب فيها الضالة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيتم الرجل ينشد ضالته في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك"، وهذا زجر يقتضي أن لا تعمل المساجد إلا فيما بنيت له، وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً من الأعراب جاء فجلس في طائفة المسجد -معناه في طرفه الذي لم يسقف-، فبال!! فصاح الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه، لا تزرموه" أي دعوه حتى يكمل بوله، ثم دعا بذنوب من ماء -أي بدلو- فأريق على بوله، ثم دعاه فقال: "إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله وإقامة الصلاة"، وما هو منافٍ للصلاة بالكلية يكون أبعد، كالبول مثلاً كما في حديث الأعرابي، وكذلك الكلام المنافي للصلاة كأمور الدنيا والبيع والشراء ونحو ذلك.

أما ما كان متعلقاً بالعبادة كعقد النكاح ففيه جانب تعبدي بالإضافة إلى جانبه العقْدي، فيجتمع فيه جانبان لأن الله أمرنا بأمرين خلقنا من أجلهما، الحكمة الأولى تختص بالبشر وهي الاستخلاف في الأرض، والحكمة الثانية مشتركة بين الإنس والجن وهي العبادة، ولذلك قال الله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}، وهذا مختص بالبشر، والثانية قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وعقد النكاح محقق لهذين الأمرين، ولذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعقدوه في المساجد وأعلنوه في المشاهد"، فلذلك يجوز عقد النكاح في المسجد بل يندب، وهو أفضل، لأنه أقل تكلفة فلا يحتاج فيه إلى ضيافة ولا إلى ذبائح ولا إلى تكلفة من غير ذلك، وفيه إعلان لهذا الأمر وإشاعة له، فالمسجد لا يأوي إليه إلا الصالحون، فهم المتطهرون الذين هم شهود الله سبحانه وتعالى وعدوله في الأرض.

ثم القضاء كذلك يقضى في المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المسجد، والقضاء فصل الخصام، وبما أن له جانبا تعبدياً لأن الله أرسل به الرسل، فقال: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسو يوم الحساب}، وقد أمرنا الله بإقامة القسط في الأرض فقال: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط}، فلذلك إقامة القسط والعدل هي مما بنيت له المساجد لأنها من إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فيجوز القضاء والإفتاء في المسجد، حتى الإفتاء في أمور الحيض والنفاس والطهارة وأمور النساء وغير ذلك، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتي في ذلك في المسجد، فليس ذلك منافياً للعبادة لأنه من تعلم العلم، وتعلم العلم داخل في العبادة كما بدأنا به.

أما ذكر أمور الدنيا، فإذا تعلق بذلك أمر ديني كالشكاية من غلاء الأسعار أو من انقطاع المطر وانقطاع الطرق، فلا حرج في ذلك في المسجد، لما ثبت في السنن من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فأتيناه وقلنا: يا رسول الله سعِّر لنا، فقال: "إن الله هو الحي القيوم، الخالق الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله غداً وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال"، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بالأسعار في المسجد، وكذلك حض على حسن القضاء والاقتضاء وكذلك على المسامحة في البيع والشراء، "رحم الله امرأ سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى"، فلا حرج في مثل هذا النوع في المسجد.

أما ما يتعلق بانقطاع المطر وانقطاع السبل فقد ثبت كذلك في الصحيحين أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله هلكت البهائم وانقطعت السبل فاستسق لنا، فرفع يديه وجعل ظهورهما إلى السماء، وقال: "اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين"، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو به، فرأينا غمامة صغيرة قد ظهرت من قبل سلع -أي من غرب المدينة-، وهذه الجهة هي التي يأتي منها المطر للمدينة، جهة الغرب كما أخرج مالك في الموطأ في الأحاديث الأربع التي هي بلاغات ولم يصلها أبو عمر بن عبد البر، يقول: "إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين الغديقة"، كل أحاديث الموطأ المقطوعة والموقوفة وجد لها أبو عمر سنداً إلا أربعة أحاديث وهي هذه البلاغات الأربع، مالك أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. وهي أربعة أحاديث، لم يصلها أبو عمر في التمهيد وقد وصلها ابن الصلاح في رسالة مستقلة هي وصل البلاغات الأربع، ومن هذه البلاغات الأربع هذا الحديث: "إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين الغديقة"، معناه إذا نشأت المزنة بحرية معناه من جهة البحر أي من جهة الغرب ثم تشاءمت اتجهت إلى الشمال فتلك عين الغديقة، وهذا من أحكام العادة، وفي حديث أنس هذا أن ذلك الرجل جاء بعد أسبوع ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على المنبر يخطب وقد مطرنا سبتاً -أي أسبوعاً كاملاً-، فقال: يا رسول الله هلكت البهائم وانقطعت السبل فاستصح لنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم على الآكام والظراب ومنابت الشجر وبطون الأودية"، فانجاب المطر عن المدينة، وقد مكثوا أسبوعاً لا يرون شمساً، فهذا يدل على أن شكاية الناس من حالهم كشكايتهم من الغلاء وشكايتهم من القحط فذلك لا حرج في ذكره في المساجد، وفي حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "إنكم شكوتم جدب دياركم واستيخار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم"، وما سوى ذلك كشؤون الإنسان الخاصة إذا كانت على وجه المشاورة كأن يستشير فيها إخوانه في ترتيب أموره في تعليم أولاده في سفره أو نحو ذلك، فإذا كان من باب المشورة فهو أيضاً من المأذون فيه لكن يكون خفية لئلا يزعج المصلين والقارئين والذاكرين.

أما ما كان من أمر الدنيا البحتة، كما يتحدث فيه الناس من أن فلاناً باع فأربح، أو أن فلاناً باع فخسر، أو أن فلاناً سدد دينه أو نحو ذلك من أمور الدنيا فلا يجوز أن يتكلم بهذا في المسجد، وقد أمر عمر رضي الله عنه الناس إذا تكلموا في شأن الدنيا أن يخرجوا من المسجد، فلما امتنعوا من ذلك وطال عليه الأمر، بنى البطيحاء حول المسجد، فقال: من كان متكلماً في أمر الدنيا فليخرج إلى البطيحاء، فكف الناس عن الكلام في أمر الدنيا بعد ذلك التهديد من أمير المؤمنين رضي الله عنه، وقد قال العلامة محمد مولود في كتاب آداب المسجد:
بنى البطيحاء حواليه عمر *** وباتباع عمر الهادي أمر
صلى الله عليه وسلم، فيكون تصرف عمر مقراً من طرف النبي صلى الله عليه وسلم، وبالأخص ما كان منه إجماعاً سكوتياً لم يخالفه فيه أحد من الصحابة.

.. والناس هنا في كثير من الأحيان ينتظرون الصلاة، وهذا وقت نفيس جداً من أوقات العمر التي يمكن أن يختلسها الإنسان من الدنيا وأهلها، ومع ذلك نجدهم يتشاغلون بالقصص الماضية أن فلاناً سافر!! أو سافرنا من بلد كذا إلى بلد كذا أو حصل كذا، من القصص الماضية، وهذا النوع هو من عمل الشيطان وهو خسران للإنسان، لأن الوقت الذي جرد فيه نفسه للطاعة والعبادة وانفرد عن شأن الدنيا وانقطع في المسجد لعبادة الله في انتظار الصلاة وقت نفيس ثمين، لا ينبغي أن يباع بالتوافه والأمور الماضية.



نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ حفظه الله.