الإجابة:
لقد كان أهل الجاهلية الأولى - رغم جاهليتهم - كانوا يرفضون الزنا ،
ويرونه عاراً ، ولم يزِد الإسلام ذلك إلا شِدّة ، إلا أن الإسلام تمم
مكارم الأخلاق وضبطها بضوابط الشريعة .
فالرجل الجاهلي كانت تحمله الغيرة على دفن ابنته وهي حيّة ، فجاء
الإسلام وأقرّ الغيرة ، وحرّم وأد البنات . وكانت الغيرة خُلُقاً
يُمدح به الرجال والنساء . فيقول الشاعر مُفتخراً بالغيرة :
ألسنا قد عَلِمَتْ معدٌ *** غداةَ الرّوعِ أجدرُ أن نغارا
وكان ضعف الغيرة علامة على سقوط الرجولة بل على ذهاب الديانة . ولذا
كان ضعيف الغيرة يُذمّ ، حتى قيل :
إذ لا تغارُ على النساءِ قبائلُ *** يوم الحفاظِ ولا يَفُون
لجارِ
وكانت العرب تقول : تموت الحُرّة ولا تأكل بثدييها وقال هند بنت
عتبة - رضي الله عنها - وقد جاءت تُبايع النبي صلى الله عليه على آله
وسلم ، فكان أن أخذ عليها في البيعة ( وألاّ تزنين ) قال : أوَ تزني
الحُرّة ؟
ولقد جاء الإسلامُ مُتمِّماً لمكارمِ الأخلاق ، فجعل الغيرةَ من
ركائزِ الإيمان ، بل جعلها علامة على قوّة الإيمان . وفاقِدُها -
أجارك الله - هو الدّيوث . الذي يُقرُّ الخبثَ في أهله ، فالجنةُ عليه
حرام عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم
قال"" ثلاثةٌ قد حَرّمَ اللهُ - تَبَارَكَ
وَتَعَالَى - عليهم الجنةَ : مُدْمِنُ الخمر ، والعاقّ ، والدّيّوثُ
الذي يُقِرُّ في أَهْلِهِ الخُبْثَ ." رواه أحمد والنسائي
.
والدّيوث قد فسّره النبي صلى الله عليه على آله وسلم في هذا الحديث
بأنه الذي يُقرّ الخبث في أهله ، سواء في زوجته أو أخته أو ابنته
ونحوهنّ . والخبث المقصود به الزنا ، وبواعثه ودواعيه وأسبابه من خلوة
ونحوها .
قال علي رضي الله عنه : أما تغارون أن تخرج نساؤكم ؟ فإنه بلغني أن
نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج . رواه الإمام أحمد تأمل في
أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - تجد عجباً ، فهم يغارون أشدّ الغيرة
، وكان رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم أشد منهم غيرة . ففي
الصحيحين من حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : قَالَ سَعْدُ
بْنُ عُبَادَةَ : لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ
بِالسّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ
صلى الله عليه على آله وسلم فَقَالَ ""
أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ فَوَ الله لأَنَا أَغْيَرُ
مِنْهُ ، وَالله أَغْيَرُ مِنّي ، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ الله حَرّمَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلاَ شَخْصَ
أَغْيَرُ مِنَ الله ، وَلاَ شَخْصَ أَحَبّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ
الله ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثُ الله الْمُرْسَلِينَ مُبَشّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَلاَ شَخْصَ أَحَبّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله ،
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْجَنّةَ" . قال ابن القيم
رحمه الله : فَجَمَعَ هذا الحديثُ بين الغيرةِ التي أصلُها كراهةُ
القبائح وبُغضُها ، وبين محبةِ العُذرِ الذي يوجبُ كمالَ العدلِ
والرحمةِ والإحسانِ . فالغيورُ قد وافقَ ربَّهُ سبحانه في صفةٍ من
صِفاتِه ، ومَنْ وافقَ الله في صفه من صفاتِه قادته تلك الصفة إليه
بزمامه وأدخلته على ربِّه ، وأدنته منه وقربته من رحمته ، وصيّرته
محبوباً له .
إذاً فالغيرةُ صفةٌ من صفات الرب جل وعلا ، وصفاته صفاتُ كمالٍ ومدح
. والغَيْرةُ لا يتّصفُ بها سوى أفذاذ الرّجال الذين قاموا بحقِّ
القَوامَة . المرأة إذا علِمت من زوجها أو وليّها الغيرة عليها راعت
ذلك وجعلته في حُسبانها هذه أسماءُ بنت أبي بكر تقول :"" تَزَوّجَني الزّبَير وما له في الأرضِ مِنْ
مالٍ ولا مَمْلوكٍ ولا شيءٍ غيرِ ناضحٍ وغير فَرَسِهِ ، فكنتُ أعلِفُ
فرسَهُ وأستقي الماءَ وأخرِزُ غَربَهُ وأعجِن ، ولم أكن أُحسِنُ أخبزُ
، وكان يَخبزُ جاراتٌ لي من الأنصار ، وكن نِسوَةَ صِدق ، وكنتُ أنقل
النّوَى من أرض الزّبير التي أقطَعَهُ رسولُ صلى الله عليه وسلم على
رأسي ، وهي مِنِّي على ثُلثَي فَرسَخ ، فجِئتُ يوماً والنّوَى على
رأسي ، فلقيتُ رسولَ صلى الله عليه وسلم ومعهُ نَفَرٌ من الأنصار ،
فدَعاني ثم قال : إخْ إخ ، ليحمِلَني خَلفَه ، فاستحيَيتُ أن أسيرَ
معَ الرّجال ، وذكرتُ الزّبيرَ وغَيرَتَه ، وكان أغيَرَ الناس ،
فَعَرَفَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أني قد استحييتُ فمضى ،
فجئتُ الزّبيرَ فقلتُ : لَقيَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعلى
رأسي النّوَى ، ومعهُ نفرٌ من أصحابه ، فأناخَ لأركبَ ، فاستَحييتُ
منه ، وعرَفتُ غَيرتَك ، فقال : والله لَحملُكِ النّوى كان أشدّ عليّ
من ركوبِك معَه . قالت : حتى أرسلَ إليّ أبو بكرٍ بعدَ ذلك بخادمٍ
تَكفيني سِياسةَ الفَرَس ، فكأنما أعتَقَني" . متفق عليه
.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال :"" كان فتى منّا حديثُ عهد بعُرس قال : فخرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذنُ
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجعُ إلى أهله ،
فاستأذنه يوماً ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : خذ عليك
سلاحك ، فإني أخشى عليك قريظة . فأخذ الرجلُ سلاحَه ، ثم رجع ، فإذا
امرأتُهُ بين البابين قائمةً ، فأهوى إليها الرُّمحَ ليطعنها به ،
وأصابته غَيْرَةٌ ، فقالت له : اكفف عليك رُمْحَكَ ، وادخل البيتَ حتى
تنظرَ ما الذي أخرجني ، فدخل فإذا بِحَيّةٍ عظيمةٍ منطويةٍ على
الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمَها به ، ثم خرج فركزَه في الدار ،
فاضطربَتْ عليه ، فما يُدرى أيهما كان أسرعَ موتاً . الحيّةَ أم الفتى
؟".
وبالمقابل فإن المرأة إذا عرفتْ أن وليَّها لا يهتمُّ بها ، ولا
يرفعُ بالغيرة رأساً سَهُل عليها التماديَ في الباطل ، والوقوعَ في
وحلِ الخطيئة ، ومستنقعات الرذيلة . والغيرةُ غيرتان :
فغيرةٌ يُحِبُّها الله ، وغيرةٌ يُبغضها الله .
فعن جابر بن عتيك أن نبيَّ الله صلى الله عليه على آله وسلم كانَ
يَقُولُ :"" مِنَ الغَيْرَةِ مَا يُحِبّ
الله ، ومِنْهَا مَا يُبْغِضُ الله ، فَأَمّا الّتِي يُحِبّهَا الله
عَزّ وَ جَلّ فَالغَيْرَةُ في الرّيبَةِ ، وَأَمّا الّتِي يَبْغَضُهَا
الله فالْغَيْرَةُ في غَيْرِ رِيبَةٍ ". رواه أحمد وأبو داود
والنسائي ، وهو حديث صحيح .
وواجبُ المؤمنُ أن يُحبَّ ما يُحبُّه الله . وأن يكره ما يكرهه الله
. قال ابن القيم : وإنما الممدوح اقترانُ الغيرةِ بالعذر ، فيغارُ في
محل الغيرة ، ويعذرُ في موضع العذر ، ومن كان هكذا فهو الممدوحُ
حقّاً .
يروى أن أعرابياً رأى امرأته تنظر إلى الرجال فطلّقها ، فعُوتِب في
ذلك ، فقال :
وأتركُ حُبَّها من غيرِ بغضٍ *** وذاك لكثرةِ الشركاءِ فيه
إذا وقع الذباب على طعامٍ *** رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنبُ الأسودُ ورودَ ماءِ *** إذا كنَّ الكلاب وَلَغْنَ فيه
وإذا رأيت ضعيف الغيرة فاعلم أنه أُصيب في مَقْتَل ، وأن ذلك بسبب
الذنوب . قال ابنُ القيّمِ رحمه الله : ومن عقوباتِ الذنوب أنها
تُطفئ من القلب نارَ الغيرة . وأشرفُ الناسِ وأجدُّهم وأعلاهم هِمَّةً
أشدَّهم غيْرةً على نفسه وخاصته وعموم الناس ، ولهذا كان النبي صلى
الله عليه على آله وسلم أغيرَ الخلقِ على الأُمّة ، والله سبحانه
أشدُّ غيرةً منه . والمقصودُ أنه كلما اشتدّت ملابستُهُ للذنوب أخرجت
من قلبه الغيْرةَ على نفسه وأهله وعموم الناس ، وقد تضعفُ في القلب
جداً حتى لا يستقبح بعدَ ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيرِه ، وإذا
وصَلَ إلى هذا الحدِّ فقد دخل في باب الهلاك ، وكثيرٌ من هؤلاء لا
يقتصر على عدم الاستقباح ، بل يُحسِّنُ الفواحشَ والظُلمَ لغيرِه ،
ويُزيِّنهُ له ، ويدعوه إليه ، ويحُثُّه عليه ، ويسعى له في تحصيله ،
ولهذا كان الديوثُ أخبثَ خلقِ الله ، والجنةُ عليه حرام وكذلك محللُ
الظلم والبغي لغيره ، ومزيِّنَه له . فانظر ما الذي حَمَلَتْ عليه
قِلَّةُ الغيرة ؟! وهذا يدُلُّكَ على أن أصل الدينِ الغيرة ، ومن لا
غيرة له لا دين له ، فالغيرةُ تحمي القلب فتحمي له الجوارح ، فتدفعُ
السوءَ والفواحشَ .
وعدمُ الغيرةِ تُميتُ القلبَ فتموتَ الجوارحُ ، فلا يبقى عندها دفعٌ
البتّةَ . وبين الذنوب وبين قِلّةِ الحياءِ وعدمِ الغيرةِ تلازمٌ من
الطرفين ، وكلٌ منهما يستدعي الآخر ويطلبه حثيثاً . انتهى كلامُه رحمه
الله ، ولا مزيد عليه . والمرأة عموما - أختاً أو بنتاً أو زوجة -
تُريد من يغار عليها ، ولكن بضوابط الغيرة التي تقدّمت . وهذا ليس في
نساء المسلمين فحسب ، بل حتى في نساء الكفار !
وهذا مثال واحد أسوقه للعبرة : هذه امرأة نصرانية تُدعى " شولو " هي
امرأة متزوجة اكتشف زوجها أن لها علاقة مع رجل آخر ، ولما طلب
منها التوقف لم تكن مستعدة لذلك ، فاقترحت عليه أن يجد فتاة يستمتع
بها ، فكان يحمل حقيبته الصغيرة ويترك البيت ، ثم تعلّق على ذلك
بقولها : كان شعور الحرية الذي منحني إياه زوجي جعلني أكرهه بدرجة
أكبر ، الأمر الذي أدّى إلى الطلاق . ( نقلاً عن كتاب أمريكا كما
رأيتها للدكتور مختار المسلاتي ) فاحفظوا يا عباد الله أنفسكم وأهليكم
، واعملوا على وقايتهم وأنفسكم من نار قعرها بعيد ، وحرّها شديد . قال
سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وحفظ
الفروج والأعراض من ضرورات الشريعة الإسلامية ، ومن كُلّيّاتها .
ومن هنا جاء الثناء على الحافظين لفروجهم في غير موضع من كتاب الله ،
ومن سُنة نبيِّه صلى الله عليه على آله وسلم .