فضل أداء الصلوات الخمس في المسجد النبوي

السؤال: ما يقول السادة العلماء فيمن يؤدي الصلوات الخمس في المسجد النبوي الشريف -سواء كان من سكان المدينة أو من الزوار-، هل الأفضل له أن يحافظ على الصلاة في الروضة الشريفة؛ اغتناما لحديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، ولو أدى ذلك إلى تفويت الصف الأول -مع ما ورد في فضله من الأحاديث- أم أن الأفضل له أن يحافظ على الصف الأول؛ اغتناما للثواب المترتب عليه في الأحاديث الصحيحة، ولو أدى ذلك إلى تفويت الصلاة في الروضة الشريفة؟ ومن ناحية أخرى. هل يثبت للزيادات التي طرأت على المسجد النبوي ولاسيما الزيادة القِبلية، والزيادة الغربية، وهي ما على ميامن الصفوف بالنسبة إلى المسجد النبوي القديم، فهل يثبت لهذه الزيادات حكم المسجد في تضعيف الصلاة أم أن التضعيف يختص بالمسجد الموجود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

الإجابة

الإجابة: أما بالنسبة للشق الأول من السؤال. فهذه المسألة ورد فيها جملة أحاديث، وهي محل بحث ونظر بين العلماء.

فَمَنْ نَظَرَ إلى عموم ما ورد في فضل الصف الأول رَجَّح صلاة الفريضة في الصف الأول، وجعل النوافل في الروضة الشريفة. ومن نظر إلى خصوص الأحاديث الواردة في فضل الصلاة في الروضة رَجَّح الصلاة فيها.

وإذا علم الله من العبد صدق النية، وتحري الخير، واتباع السنة وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أثابه الله على نيته الصالحة.

وقد رأيت عددا من العلماء يتحرَّون صلاة الفريضة في الروضة ويتركون الصف الأول، وهذا يدل على اختيارهم الصلاة في الروضة، وسألت بعضهم فتوقف ولم يرجح شيئا، مع أنه يتحرى الصلاة في الروضة.

وبعض العلماء جزم بترجيح الصلاة في الصف الأول. ومن هؤلاء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز. فقد صرح في منسكه بذلك. قال: أما صلاة الفريضة فينبغي للزائر وغيره أن يتقدم إليها، ويحافظ على الصف الأول -مهما استطاع- وإن كان في الزيادة القبلية؛ لما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحث والترغيب في الصف الأول، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" (متفق عليه) (1).

ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله" (أخرجه مسلم) (2).

وأخرج أبو داود (3) عن عائشة رضي الله عنها بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: "ألا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائكةُ عند ربها؟" قالوا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يُتمون الصفوف الأُول، ويتراصون في الصف" (رواه مسلم) (4).

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تعم مسجده صلى الله عليه وسلم وغيره، قَبْلَ الزيادة وبعدها.

وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحث أصحابه على ميامن الصفوف (5)، ومعلوم أن يمين الصف في المسجد الأول خارج عن الروضة، فعلم بذلك أن العناية بالصفوف الأُول وميامن الصفوف مقدمة على العناية بالروضة الشريفة، وأن المحافظة عليها أولى من المحافظة على الصلاة في الروضة، وهذا بَيِّن واضح لمن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب والله الموفق، انتهى.

ومن هؤلاء العلماء الذين جزموا -أيضا- بترجيح الصلاة في الصف الأول: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، فقد ذكر في كتابه (حجة النبي صلى الله عليه وسلم): أن التزام الصلاة في المسجد القديم، وقطع الصفوف التي في زيادة عُمَر، وغيره، من البدع.
قال: وقد يقع في هذه البدعة بعض أهل العلم. وشبهتهم في ذلك تمسكهم باسم الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة..." الحديث. ومع أن ذلك ليس نصا فيما ذهبوا إليه؛ لأنه لا ينافي امتداد الفضيلة إلى الزيادة، كما هو الشأن في الزيادات التي ضمت إلى المسجد المكي.

وليس في الحديث -آنف الذكر- إيجاب الصلاة، وإنما هو للحض والترغيب، وهذا يحصل بصلاة النوافل.

وأما صلاة الجماعة، فترك الصفوف الأُول خطأ محض؛ لما فيه من تفويت ما هو أولى من تلك الفضيلة بكثير. منها: ترك وصل الصفوف، ووصلها واجب بأحاديث كثيرة، كحديث أنس مرفوعاً: "أتموا الصف المقدم، فإن كان نقص فليكن في المؤخر" (6).

ومنها: ترك أهل العلم الصلاة خلف الإمام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (7).

ومنها: تفويتهم فضيلة الصفوف الأُول مع ما ورد فيها من الأحاديث.

ثم قال: ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نجزم بأن فضيلة الصف الأول -مطلقا- أفضل من الصفوف المتأخرة في المسجد القديم، فكذلك هل يستطيع أحد منهم أن يدعي العكس، لكن إذا انضم إليه ما سبق، فلا شك حينئذ في ترجيح الصلاة في الزيادة على الصلاة في المسجد القديم؛ ولذلك اقتنع بهذا غير واحد من العلماء حين باحثتُهم في المسألة، وصاروا يصلون في الزيادة. انتهى ملخصا.

وأما بالنسبة إلى ما يتعلق بالشق الأخير من السؤال، وهو حكم تضعيف الصلاة في المسجد النبوي. فالراجح أن التضعيف يعم المسجد القديم وكل ما طرأ عليه من زيادات، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما فرغ من زيادته: لو انتهى بناؤه إلى الجبّانة لكان الكل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (8).

وقال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو زيد في هذا المسجد ما زيد لكان الكل مسجدي" (9)، وفي رواية: "لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي" (10)، والآثار في هذا كثيرة معروفة، والله أعلم.

___________________________________________

1 - البخاري (615)، ومسلم (437) من حديث أبي هريرة.
2 - مسلم (438).
3 - (679) من حديث عبد الرزاق، عن عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة مرفوعا، به. قلت: ورواية عكرمة بن عمار بن يحيى بن أبي كثير مضطربة، فلم يكن عنده كتاب. قاله: الإمام أحمد وابن المديني ويحيى بن سعيد والبخاري وأبو داود والنسائي ويحيى القطان.
4 - مسلم (430) من حديث جابر بن سمرة.
5 - يشير إلى حديث عائشة الذي أخرجه البيهقي (3/ 103) وغيره، مرفوعا: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف"، قال البيهقي: كذا قال، والمحفوظ بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يُصلون على الذين يَصِلون الصفوف".أ.ه. قلت: وهذا المتن الذي قال عنه البيهقي: إنه محفوظ. فيه مقال شديد، فيروى من طرق عن سفيان، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ومرة: عن أسامة بن زيد، عن عثمان بن عروة، به. وأسامة بن زيد هذا ضعفه أحمد قال: ليس بشيء. وقال مرة: تركه يحيى بن سعيد بأخرة.قال ابن معين: كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقوى ابن معين أمره في بعض الروايات. وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن أسامة بن زيد فقال: نظرة في حديثه يتبين لك اضطراب حديثه. قلت: وهذا المتن يرويه مرة عن عبد الله بن عروة، ومرة عن عثمان بن عروة.
6 - أخرجه أحمد (3/132، 215، 233)، وأبو داود (671)، والنسائي (2/93)، وابن خزيمة (1546)، وابن حبان (2155) وإسناده صحيح.
7 - مسلم (432).
8 - قال الشيخ الألباني في (الضعيفة) (973): فقد رواه عمر بن شبة من طريقين مرسلين عن عمر قال: لو مُد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه. هذا لفظه من الطريق الأولى، ولفظه من الطريق الأخرى: لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءه الله بعامر.
9 - (تاريخ ابن النجار) (369)، وقال الشيخ الألباني في (الضعيفة) (974) ضعيف جداً.
10 - (أخبار المدينة) لابن شبة، و(تاريخ ابن النجار) (370) وقال الألباني: ضعيف جداً.