مَن هم الأشعرية والماتريدية

السؤال: الأشعرية والماتريدية

الإجابة

الإجابة: من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم الشيخ: .... حفظه الله تعالى، وهدانا وإياه صراطه المستقيم، وجعلنا جميعاً هداة مهتدين وصالحين مصلحين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فبناء على ما أوجب الله علينا من النصيحة لله تعالى، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وعلى ما تقتضيه الأخوة الإيمانية من المودة والمحبة في الله ولله، فإني أبين لكم ما لاحظته في مقالات نشرت لفضيلتكم في مجلة ... في العدد ... تحت عنوان: (حوار مفتوح) وفي الأعداد...، ...، ...، ...، ...، تحت عنوان: (عقيدة أهل السنة في ميزان الشرع).

وذلك في النقاط التالية:

. أولاً: ذكرتم أن الأشعرية والماتريدية من أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته، وذلك بناء على تقسيمكم مذهب أهل السنة والجماعة إلى مذهبين:
- أحدهما: مذهب السلف الذي ذكرتم أنه اشتهر بمذهب أهل التفويض.
- والثاني: مذهب الخلف الذي اشتهر بمذهب أهل التأويل.

والحق أن هذا التقسيم غير صحيح وذلك.
1 - لأنه لا يمكن عقلاً ولا شرعاً أن نجمع في وصف واحد بين طائفتين مختلفتين في طريقتهما، فهل يمكن أن نقول: إن طريقة من قال: إن الله استوى على عرشه حقيقة، وينزل إلى السماء الدنيا حقيقة، ويجيء للفصل بين عباده حقيقة، ويحب المقسطين حقيقة، ويرضى حقيقة، ويكره حقيقة، ويغضب حقيقة، وكل ذلك وجميع ما وصف الله به نفسه حق على حقيقته بدون تمثيل، ولا تكييف، هل يمكن أن نقول : إن طريقة هؤلاء هي طريقة من نفي حقيقة هذه الأمور وسلك فيها طريق التأويل، الذي سماه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تحريفاً كما في عقيدته الواسطية ومناظرته عليها.

إننا إن قلنا: إن طريقة أولئك هي طريقة هؤلاء فقد جمعنا بين النقيضين الإثبات والنفي، وامتناع الجمع بين النقيضين أمر معلوم عند جميع العقلاء من بني آدم.

إذا تبين ذلك تعين أن نقول: إن إحدى الطائفتين فقط هم أهل السنة والجماعة، فإما أن تكون طائفة السلف أهل التحقيق، وإما أن تكون طائفة الخلف أهل التأويل، ولا يمكن أحداً أن يقول: إن أهل السنة والجماعة طائفة الخلف دون طائفة السلف، لأن طائفة السلف تعني المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من سلف الأمة، وأئمتها، ومنهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله في مذهبه الذي استقر عليه أخيراً في كتابه: (الإبانة)، وبين أنه قائل بما قال به الإمام أحمد رحمه الله تعالى والإمام أحمد رحمه الله كما تعلمون مشهور بلقب إمام أهل السنة ومذهبه في الصفات الإثبات دون التأويل، ولو كان من مذهب أهل السنة التأويل ما صح أن يطلق إمام أهل السنة على من لا يراه، إذاً فأهل السنة والجماعة طائفة واحدة فقط، وهم الذين اجتمعوا على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وحققوا ذلك عقيدة، وقولاً، وعملاً فمنهاجهم الباطن والظاهر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا سموا أهل السنة لتمسكهم بها، وسموا أهل الجماعة لاجتماعهم على ذلك.

2 - أن فضيلتكم صرح في ص ... عدد ... بأن الأشعرية والماتريدية مخطئون، وإذا كانوا على السنة والجماعة فهل يصح أن نقول: إنهم مخطئون؟ هل يمكن أن تكون السنة خطأ؟ هل يمكن أن يكون الاجتماع على السنة خطأ؟ في ظني أن الجواب من فضيلتكم على هذا بالنفي الصريح البات.
وإن كنتم سامحكم الله قد قلتم في ص ... عدد ... بالحرف الواحد: "مذهب الأشاعرة على الوجه الصحيح" وهذا مناقض لكلامكم الأخير.

3 - إن شيخ الإسلام وغيره من المتكلمين في الأسماء والصفات أنكروا على الأشاعرة ومن حذا حذوهم ممن يثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها بتأويل، وبينوا تناقضهم، وأن طريقتهم مخالفة لطريقة أهل السنة والجماعة، وأنهم يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما يلزمهم فيما نفوه، وأن ما نفوه يمكن إثباته بمثل ما أثبتوا به ما أثبتوه بل بما هو أبين وأظهر (راجع العقيدة الواسطية، ورسالة التدمرية) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
إذاً فمن نفى شيئاً من صفات الله تعالى بتكذيب، أو تأويل فليس من أهل السنة والجماعة من أي طائفة كان وإلى أي شخص ينتسب، ولكننا لا ننكر أن يكون لبعض هؤلاء قدم صدق في الإسلام، والذب عنه، والعناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم رواية ودراية والحرص على نفع المسلمين وهدايتهم وهم على ذلك مشكورون، وبما وعد الله عليه من الثواب مجزيون ولهم منا على ذلك المودة، والمحبة، والدعاء بالمغفرة والرحمة. ولكن يجب أن نزن لهم بالقسطاس المستقيم فننزلهم منزلتهم، ونعطيهم مالهم، ولا نضيف لهم ما ليس فيهم.

. ثانياً: ذكر فضيلتكم ص ... عدد ... أن الخلاف بين أهل السنة السلف والخلف على ما ذكرتم خلاف بين الفاضل والأفضل، وهذا يقتضي أن يكون المرء مخيراً بين إجراء نصوص الصفات على ظاهرها اللائق بالله عز وجل وهو ما درج عليه السلف الصالح، وبين صرفها عن ظاهرها إلى معان تخالف الظاهر، وتستلزم تعطيل حقائقها، وغاية ما في ذلك أن يكون ترك الأفضل إلى الفاضل، فمثله كمثل من زاد في الطمأنينة والخشوع والذكر في الصلاة على الوجه الموافق للأكمل ومن اقتصر في صلاته على الواجب.
وهذا الذي ذكرتم غير صحيح، فما زال أئمة أهل السنة ينكرون على من أول نصوص الصفات أو بعضها، ولولا أن كتابي هذا إلى رجل يعلم ذلك، أو يمكنه أن يعلمه بالرجوع إلى كتبهم لنقلت من كتبهم ما تيسر في هذا الباب.

ولا ريب أن تأويل نصوص الصفات عن ظاهرها تحريف محرم وذلك من وجوه:
1 - أنه جناية على النصوص حيث صرفها عن ظاهرها، والله سبحانه وتعالى خاطب الناس بلسان عربي مبين، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر، فوجب حمل كلاميهما على ظاهرهما المفهوم بمقتضى اللسان العربي، غير أنه يجب أن يصان عن التكييف، والتمثيل في صفات الله.

2 - أن صرف كلام الله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قول على الله بغير علم، وقد قال الله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}، فالصارف لكلام الله عن ظاهره قال على الله بلا علم من وجهين:
- الأول: أنه زعم أن الله لم يرد بكلامه كذا.
- الثاني: أنه قال: إنه أراد به كذا لمعنى آخر لم يدل عليه ظاهر الكلام.
مثال ذلك قوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي}، فإذا صرف الكلام عن ظاهره قال لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد القدرة قلنا: ما دليلك على ما نفيت؟ وما دليلك على ما أثبت؟ فإن أتى بدليل وأنى له وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
3 - أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف الأمة، وأئمتها.
4 - أنه يلزم على طريقته لوازم باطلة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم فمن ذلك.
أ. أنهم لم يصرفوا هذه النصوص إلا حين اعتقدوا أن ظاهرها مستلزم لتشبيه الله تعالى بخلقه وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر، كما قال نعيم بن حماد الخزاعي: "من شبه الله بخلقه فقد كفر"، ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كفراً وتشبيهاً، وهم قد جعلوه مستلزماً، أو موهماً لذلك جل ربي، وكلامه عن هذا اللازم، والإيهام.
ب. أن الله تعالى لم يبين الحق الذي يجب على العباد اعتقاده في باب أسماء الله تعالى وصفاته وإنما جعل ذلك موكولاً إلى عقولهم يثبتون ما شاؤوا، وينكرون ما شاؤوا ويؤولون النصوص المثبتة لما أنكروه، وهذا من أبطل الباطل، فكيف يدع الله تعالى بيان هذا الباب الذي هو من أوجب الواجبات ويكل أمره إلى عقول متناقضة يمنع بعضها ما يوجبه الآخر، أو يجوزه على الله عز وجل.
ج. أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين، وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة ما يجب لله تعالى من الصفات وما يمتنع عليه إذ لم يرد عنهم حرف واحد في التأويل الذي سلكه أولئك المؤولون، وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وسلف الأمة، وأئمتها جاهلين بذلك قاصرين عن معرفته، وإما أن يكونوا عالمين به، لكن كتموه وقصروا في بيانه للناس، وكلا الأمرين باطل.

فإذا تبين ذلك علم أن الخلاف بين السلف والخلف في صفات الله تعالى ليس خلافاً بين الأفضل والفاضل، ولكنه خلاف بين الواجب والمحرم والحق والباطل، وأن طريق الخلف في ذلك محرم باطل.

واعلم يا فضيلة الشيخ أن القول إذا كان باطلاً محرماً فلا يلزم أن يكون قائله آثماً إذا كان لم يقصر في طلب الحق واتباعه، ولكن اجتهد فأخطأ، ولكن عدم إثمه عند الله تعالى لا يلزمنا أن نصوب قوله، أو نقول : إنه من السنة، فالتفريق بين القول والقائل، والفعل والفاعل أمر ينبغي التفطن له، والواجب علينا أن ننكر ما خالف الحق مهما كان القائل به، ومهما كان عدد القائلين، ونعتذر عن قائله إذا علمنا منه صدق النية في طلب الحق واتباع ما تبين له منه.

. ثالثاً: ذكر فضيلتكم ص ... عدد ... أننا إذا أخرجنا الأشاعرة والماتريدية من صف المسلمين، وجعلناهم في عداد الضالين وأسقطناهم من أهل السنة والجماعة فمعنى ذلك أن نحكم بالكفر والضلالة على ما يزيد على نسبة 95 في المئة من المسلمين.

وأظن أن فضيلتكم يعلم أنه لا يخرج الأشاعرة والماتريدية من صف المسلمين إلا جاهل بحالهم، أو جاهل بأسباب الكفر والخروج عن الإسلام أما أهل العلم بذلك فلم يخرجوهم من الإسلام، بل ولا من أهل السنة والجماعة في غير ما خالفوا به أهل السنة والجماعة. والإنسان قد يكون فيه شعبة من المخالفة للحق، وشعبة من الموافقة له، ولا يخرجه ذلك عن أهل الحق إخراجاً مطلقاً بل يعطى ما يستحقه ويوصف بما هو أهله من هذا وهذا حتى يكون الوزن بالقسطاس المستقيم.

وأما أن يكون الأشاعرة والماتريدية في المسلمين بهذه النسبة 95% فهذا أمر ينظر فيه، وحتى لو صحت هذه النسبة فإنها لا تقتضي عصمتهم من الخطأ، لأن العصمة في إجماع المسلمين، وإجماع المسلمين ثابت على خلاف ما كانت عليه هذه النسبة، فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة مجمعون على إثبات ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، وعلى إجراء النصوص في ذلك على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تأويل، وهم أحق بالاتباع وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 87 من المجلد الخامس من مجموع ابن القاسم للفتاوى عن ابن عبد البر قوله: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في الكتاب والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة".أ.ه. ونقل أيضاً ص 89 منه عن القاضي أبي يعلى قوله: "لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها ولكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة".أ.ه.

وبهذا تبين أن أهل السنة مجمعون على خلاف ما كان عليه أهل التأويل وإجماعهم هو الحجة الظاهرة.

. رابعاً : ذكر فضيلتكم ص ... عدد ... كلاماً هذا نصه: "أما ما يتخيله بعض الجهلة من أدعياء العلم اليوم الذين يصورون الله تعالى بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركب من أعضاء وحواس، له وجه، ويدان، وعينان، وله ساق، وأصابع، وهو ينزل، ويمشي، ويهرول ويقول:ون في تقرير هذه الصفات : إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج"، ثم ذكرتم أن السلف الصالح رضوان الله عليهم لم يكن يخطر ببالهم عندما أثبتوا الصفات شيء من هذا أصلاً، بل لم يكن يتلفظ الواحد منهم بمعنى الاستواء حتى لا يتوهم السامع التشبيه ثم نقلتم قول مالك المشهور فيه.
وليت غيرك قال هذا فإنه من الغريب العجيب أن تجعل ما نطق به الكتاب، والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة تخيلاً من بعض الجهلة.
ألم تقرأ قول الله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}؟ ألم تقرأ قوله تعالى عنه نفسه: {بل يداه مبسوطتان}؟ وقوله: {لما خلقت بيدي}؟ ألم تقرأ قوله تعالى عن سفينة نوح: {تجري بأعيننا}؟ وقوله لموسى: {ولتصنع على عيني}؟ ألم يبلغك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً}، قال ابن كثير في تفسير سورة "ن": "وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق، وله ألفاظ وهو حديث طويل مشهور"؟ ألم تسمع بما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن"؟ وبما رواه هو والبخاري وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة الحبر الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع وذكر الحديث، وفيه: "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً له، ثم قرأ: {وما قدروا الله حق قدره}"، وبما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السماوات بيمينه ثم يقول: أنا الملك"، قال ابن كثير في تفسيره آخر سورة الزمر: تفرد به يعني البخاري من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر.
ألم يثبت عندك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما حتى قال ابن القيم في الصواعق: "إنه قد تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه عنه نحو ثمان وعشرين نفساً من الصحابة".أ.ه. مختصر الصواعق ص 380 ط الإمام. ثم ذكر بعد ذلك أسماء الصحابة الذين رووه وأحاديثهم فراجعه، وراجع شرح الحديث المذكور لشيخه ابن تيمية يتبين لك حقائق وتنحل عنك إشكالات. والله الموفق.
ألم يرو البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"، وروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فيمن تقرب إلى الله تعالى.
فارجع إلى حديث أبي هريرة في البخاري ص 384 من الفتح ط السلفية وفي مسلم ص 2068 ط الحلبي تحقيق محمد فؤاد، وإلى حديث أبي ذر في نفس الصفحة من مسلم.

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يخفي عليكم إن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه وإن المسيح أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية" (متفق عليه وهذا لفظ البخاري).

فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة فيها الدلالة الصريحة على ثبوت الوجه، واليدين، والعينين، والساق، والأصابع، والنزول والهرولة لله جل وعلا. فهل فوق علم الله علم؟ وهل فوق علم النبي صلى الله عليه وسلم بربه علم البشر؟ وهل يمكن أن يقال: لما ثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنه من تخيل بعض الجهلة أدعياء العلم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

▪ نعم ... من اعتقد أن هذه الصفات ثابتة لله تعالى على وجه تماثل به صفات المخلوق، أو أنها موهمة لذلك فإنه من الجهلة أدعياء العلم أما من اعتقد ثبوتها لله تعالى على الوجه اللائق به من غير تكييف، ولا تمثيل فذاك هو العالم بالله، المعظم لكتابه، السالك مسلك الأدب معه، ومع رسوله حيث لم يقدم بين يدي الله ورسوله، ولم يدع في كلامهما ما هو خلاف ظاهره وينف ما هو ظاهره.

وأما قولكم:"إن السلف لم يكن يخطر ببالهم حين أثبتوا الصفات شيء من هذا أصلاً، وأن الواحد منهم لم يكن يتلفظ بمعنى الاستواء" الخ.

فإني أظن أنكم لو تأملتم طريقة السلف لعلمتم أنها على خلاف قولكم هذا عنهم، فإن السلف كان يخطر ببالهم أنها ثابتة بدون تكييف، ولا تمثيل. فقد خطر ببالهم الحق والباطل فيما يتعلق بصفات الله تعالى فأثبتوا الحق ونفوا الباطل، ولم يكونوا بحمد الله بلهاء لا يخطر ببالهم شيء أو لا يميزون بين الحق والباطل، وتفسيرهم لآيات الصفات وأحاديثها على الوجه اللائق بالله تعالى أمر معلوم يسير تتبعه على فضيلتكم. ومنه ما جاء في كتاب التمهيد لابن عبد البر ص 131ج 7 حيث قال: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار، والتمكن فيه قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {استوى}، قال: "علا"، قال: وتقول العرب استوى فوق الدابة واستوى فوق البيت، وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد قال أبو عمر: الاستواء الاستقرار في العلو وبهذا خاطبنا الله عز وجل ثم ذكر آيات الزخرف، وهود، والمؤمنون.

وذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية: استوى إلى السماء ارتفع، وقال مجاهد: "استوى: علا على العرش".أ.ه. ص 403 فتح ط السلفية وقال البغوي في تفسير قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء}، قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء. وقال في تفسير قوله: {ثم استوى على العرش}، قال الكلبي ومقاتل: استقر وقال أبو عبيدة: صعد.

فهذه أيها الشيخ أربعة معان للاستواء عند السلف وإليها أشار ابن القيم في نونيته حيث قال:
فلهم عبارات عليها أربع *** قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذا ار *** تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع *** وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره *** أدرى من الجهمي بالقرآن
أفبعد إثبات أربعة معان للاستواء عن السلف يصح أن نقول : إن الواحد منهم لم يكن يتلفظ بمعنى الاستواء؟!

وأما جواب مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء بقوله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول"، فإن مالكاً لم يسأل عن معنى الاستواء حتى يقال: إنه أحجم عن الإفصاح بمعناه، وإنما سئل عن الكيفية، فأجاب بأنها مجهولة لنا، ولكن لقوة احتراسه خاف أن يتوهم واهم بأن المعنى مجهول أيضاً فقال: الاستواء معلوم ولم يفصح بالمعنى لظهوره ولذلك لم يقع السؤال عنه.

وأما قول فضيلتكم: "إن بإمكان مالك أن يقول: الاستواء هو الجلوس"، فلا أظن ذلك بإمكانه لأن تفسير الاستواء بالجلوس لم يثبت عن السلف فيما أعلم، والله أعلم.

. خامساً: ذكر فضيلتكم في ص ... عدد ... أن الأشاعرة ذكروا هذا الكلام لأنه ظهر في عصرهم ناس ضلوا بسبب العقيدة فأولوا هذه الصفات دفعاً لأولئك منهم على نية حسنة. فالأشاعرة إنما أرادوا تنزيه الله جل وعلا لئلا يضل بعض الناس بتشبيه الخالق بعباده.

وهذا الذي ذكرتموه قد يكون هو الواقع من بعضهم، وقد يكون الواقع للآخرين أن هذا هو عقيدتهم، وأنهم يعتقدون أن إثبات الحقيقة يستلزم التشبيه.

وعلى كل حال فهذا مسلك فاسد إذ لا يمكن معالجة الداء بداء، ولا تفنيد البدعة ببدعة، وإنما يعالج الداء بالدواء الناجع، وتفند البدعة بالسنة، ولهذا لم يأت الأشاعرة بطائل في الرد على أهل التأويل الكلي في الصفات، فإن من المعروف أن الأشاعرة لا يثبتون من الصفات إلا سبعاً وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، على خلاف بينهم وبين السلف في كيفية إثبات بعضها، أما ماعدا هذه الصفات فإنهم ينكرون حقيقتها بتأويلها إلى ما زعموا أن العقل يجيزه دون الحقيقة. فإن أهل التأويل الكلي استطالوا على الأشاعرة فقالوا: إذا كنتم تبيحون لأنفسكم التأويل فيما أولتموه بدون دليل سمعي بل بمقتضى عقولكم، فلماذا تنكرون علينا ما أولناه بمقتضى عقولنا مما لا تؤولونه، فإن كانت عقولنا خاطئة فأين الصواب في عقولكم؟ وإن كانت عقولكم صائبة فأين الخطأ في عقولنا؟ وليس لكم علينا حجة في الإنكار سوى مجرد التحكم. وهذا الإيراد من أهل التأويل الكلي على الأشاعرة وارد لا محيص للأشاعرة عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تمثيل ولا تكييف، وتنزيهاً بلا تعطيل، ولا تحريف.

ولا يكفي في قبول القول وإقراره حسن قصد قائله بل لابد من موافقته لشريعة الله تعالى، فإن كان مخالفاً وجب رده وإنكاره مهما كان قائله لكن إن كان قائله ممن عرف بحسن القصد والنصيحة لدين الله وعباد الله اعتذر عنه في هذه المخالفة، وإلا أعطي ما يستحقه لسوء قصده ومخالفته.

. سادساً: ذكر فضيلتكم ص ... ص ... أن الأسلم في موضوع الصفات أن نفوض الأمر إلى علام الغيوب الذي لا تخفي عليه خافية وفي ص ... عدد ... قلتم: وضمن هذا الإطار الذي فيه تنزيه الله جل وعلا عن مشابهته الخلق، أو مشابهة الخلق له يؤمن السلف الصالح بجميع ما ورد من آيات الصفات وأحاديث الصفات، ويفوضون علم ذلك إلى الله تعالى ... وقد اشتهر هذا المذهب بأنه مذهب أهل التفويض. وفي ص ... عدد ... ذكرتم أنه اشتهر لعلماء أهل السنة مذهبان هما:
أ. مذهب أهل التفويض.
ب. مذهب أهل التأويل.
ثم ذكرتم ص .و. عدد ... أن مذهبهم ليس التفويض المطلق كما قد يتوهم البعض من الناس وإنما هو مسلك آخر، ثم ذكرتم أنه يتلخص في شيئين:
- أحدهما: تأويل ما لابد من تأويله من آيات الصفات وأحاديثها.
- والثاني: إثبات ما أثبته القرآن أو السنة والإيمان بها على مراد الله بطريق التسليم والتفويض دون تشبيه، أو تعطيل، أو تجسيم، أو تمثيل. على ضوء هذا يؤمن السلف الصالح في نفي المثلية ونفي التجسيم.

والتفويض الذي ذكرتموه هنا لم تبينوا بياناً ظاهراً ما المراد به؟ هل هو تفويض المعنى، أو تفويض الكيفية؟ فإن كان الأول فليس هذا مذهب السلف لأنهم يثبتون المعنى على حقيقته ويعرفونه تمام المعرفة لكن على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييف، ولا تمثيل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف ب: (العقل والنقل) الذي طبع على هامش كتابه (منهاج السنة) في ص 116 ج 1: "وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله". إلى أن قال: "فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة"، وقال في ص 118 بعد كلام سبق: "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن وفي الأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته.. لا يعلم معناه فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد، وكل مبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، ومالا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به. فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم، ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا، لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد".أ.ه كلام الشيخ.

وعلى هذا فيجب الإفصاح عن المراد بالتفويض في كلامكم وبيان أنه تفويض الكيفية لا المعنى الحقيقي لئلا يعتقد القارئ أنكم تريدون تفويض المعنى الذي هو من شر أقوال أهل البدع والإلحاد لما يلزم عليه من اللوازم الباطلة التي ذكر بعضها شيخ الإسلام في كلامه هذا.

ولا يكفي في الإفصاح عن ذلك قولكم: "والإيمان به على مراد الله"، فإن مراد الله على رأي المفوضين للمعنى غير معلوم لهم، وإن كان هو معلوماً لغيرهم حيث يؤمنون بأن الله تعالى أراد بها المعنى الحقيقي الذي يدل عليه اللسان العربي الذي نزل به القرآن لكنه على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييف، ولا تمثيل.

وقولكم: "إن مذهب السلف يتلخص في شيئين: أحدهما: تأويل ما لابد من تأويله" إلخ قول غير صحيح، فإن السلف بحمد الله لم يكونوا يؤولون شيئاً من نصوص الصفات عن ظاهره كما يفعله أهل التأويل، وإنما كانوا يجرونها على حقيقتها وظاهرها على ما أراده الله ورسوله. وقد تقدم ما نقلناه عن ابن عبد البر، والقاضي أبي يعلى من حملها كلها على الحقيقة وأنه لا يجوز التشاغل بتأويلها.

وقد ذكر فضيلتكم في ص ... وما بعدها من العدد ... أمثلة ذكرتم أنه لابد من تأويلها وسوف نذكرها ونبين بحول الله وهدايته أنه ليس فيها من تأويل أهل التعطيل شيء حتى يمكن أن تكون حجة لهم على أهل الإثبات بالموافقة أو المداهنة كما قلت أنت في ص ... عدد ... بالحرف الواحد: "فلماذا نحكم بضلال الأشاعرة بسبب التأويل ونبيح لأنفسنا التأويل".

ونحن نجيب عن الأمثلة التي ذكرتم بجوابين مجمل ومفصل:

* أما المجمل: فإن التأويل الذي سلكه النفاة صرف اللفظ عن ظاهره لصارف من عند أنفسهم لا يدل عليه سياق الكلام، والتأويل الذي سلكه أهل الإثبات في بعض ما ذكرتموه ليس صرفاً للكلام عن ظاهره لأن في سياقه ما يدل على المعنى المراد، ولا ريب أن ظاهر الكلام ما دل عليه سياقه بحسب الوضع اللغوي أو حال المتكلم عنه.

* وأما المفصل: فالمثال الأول قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء}، ذكر فضيلتكم أنها مؤولة إلى معنى القصد والإرادة، ولا ريب أن هذا المعنى قال به طائفة من أهل السنة وذلك من أجل تعدية الفعل ب: (إلى) الدالة على الغاية والانتهاء، والفعل قد يضمن معنى يخالف المعنى المشتق منه من أجل الحرف المعدى به، ألا ترى قوله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله}، حيث كان الفعل {يشرب} بمعنى (يروى) من أجل تعديه ب (الباء)، وعلى هذا فليس في الكلام صرف عن ظاهره لوجود دليل في السياق يقتضي هذا المعنى.
والقول الثاني لأهل السنة أن {استوى} بمعنى ارتفع كما نقله البغوي في تفسيره عن ابن عباس، وأكثر المفسرين تمسكاً بظاهر معنى الفعل وتفويضاً لكيفية هذا الارتفاع إلى الله تعالى والله أعلم.
- المثال الثاني والثالث: قوله تعالى في سورة الحديد: {وهو معكم أينما كنتم}، وقوله في سورة المجادلة: {ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا}، ذكر فضيلتكم أن السلف أولوا المعية إلى معنى العلم، ثم ذكرتم تعليل ذلك في آية سورة الحديد بأنه كيف يكون الله تعالى على عرشه وهو مع كل إنسان في كل مكان، وذكرتم في آية المجادلة أن السلف لم يفسروها بمعية الذات لئلا تتعدد الذات الإلهية.

ولا ريب أن السلف فسروا معية الله تعالى لخلقه في الآيتين بالعلم وحكى بعض أهل العلم إجماع السلف عليه، وهم بذلك لم يؤولوها تأويل أهل التعطيل، ولم يصرفوا الكلام عن ظاهره وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الله تعالى ذكرها في سورة المجادلة بين علمين فقال في أول الآية: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض}، وقال في آخرها: {إن الله بكل شيء عليم}، فدل ذلك على أن المراد أنه يعلمهم ولا يخفي عليه شيء من أحوالهم.
الثاني: أن الله تعالى ذكرها في سورة الحديد مقرونة باستوائه على عرشه الذي هو أعلى المخلوقات فقال: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}، إلى قوله: {وهو معكم أينما كنتم}، فدل على أن المراد معية الإحاطة بهم علماً وبصراً، لا أنه معهم بذاته في كل مكان وإلا لكان أول الآية وآخرها متناقضاً.
الثالث: أن العلم من لوازم المعية، ولازم اللفظ من معناه فإن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام ولهذا يمكن أن نقول: هو سبحانه معنا بالعلم، والسمع، والبصر، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني ربوبيته كما قال تعالى لموسى وهارون: {إنني معكما أسمع وأرى}، وقال هنا في سورة الحديد: {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}، فإذا كان العلم من لوازم المعية صح أن نفسرها به وبغيره من اللوازم التي لا تنافي ما ثبت لله تعالى من صفات الكمال ولا يعد ذلك خروجاً بالكلام عن ظاهره.

على أن من المحققين من علماء أهل السنة من فسر المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى وقال: لا يمتنع أن يكون الله تعالى معنا حقيقية وهو على عرشه حقيقة كما جمع الله تعالى بينهما في آية سورة الحديد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص 142 من المجلد الثالث من مجموع الفتاوى لابن قاسم: "وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش، وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة"، وقال قبيل ذلك: "وليس معنى قوله: {وهو معكم} أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته هو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وقال في الفصل الذي يليه ص 143:"وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته، لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه قريب في علوه".أ.ه.
وقال في الفتوى الحموية ص 102 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوى لابن القاسم: "ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك (يعني مما جاء في الكتاب والسنة) يناقض بعضه بعضاً البتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وهو معكم أينما كنتم}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه"، ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع بينهما في قوله: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير}، فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: "والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه"، وذلك أن كلمة: "مع" في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك بالمعنى، فإنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا أو النجم معنا، ويقال: "هذا المتاع معي لمجامعته لك وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة".أ.ه.

وليس تفسير المعية بمعناها الحقيقي اللائق بالله تعالى بمناف لما فسرها به السلف من العلم، فإن العلم من لوازم معناها، ولازم المعنى منه فلا يناقض حقيقته.

وتفسير المعية بمعناها الحقيقي لا يقتضي أن الله تعالى حال مع خلقه في أمكنتهم، ولا يدل على ذلك بأي وجه من وجوه الدلالة، ولا يفهم ذلك منه إلا من غلظ طبعه عن معرفة اللغة، وحجب قلبه عن تعظيم الله تعالى ومعرفة ما يجب له من الكمال والجلال، ولم يفهم أحد من السلف عن معية الله لخلقه هذا الفهم الخاطئ الضال، وإنما فهمه الحلولية الذين لم يقدروا الله حق قدره من قدماء الجهمية وغيرهم، ولا ريب أن من اعتقد ذلك في الله تعالى فهو كافر أو ضال، ومن نقله عن غيره من السلف أو الأئمة فهو كاذب.

- المثال الرابع والخامس: قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، وقوله: {ونحن أقرب إليه منكم}.
ذكر فضيلتكم على المثال الرابع ما نصه: "كيف يمكن فهم النص الكريم بدون تأويل: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، هل الله تعالى ملتصق بالإنسان التصاق عرق الوريد؟ أليس في هذا الفهم الخاطئ ما يؤيد دعاوى بعض أهل الضلال من جهلة المتصوفة، أو الزنادقة والملاحدة الذين يقولون بالحلول والاتحاد؟".
وذكرتم على المثال الخامس: {ونحن أقرب إليه منكم}، قولين: أحدهما: أقرب إلى الميت بعلمنا واطلاعنا. والثاني: أقرب إليه بملائكتنا الحاضرين لقبض روحه.
ولا ريب أن للعلماء في تفسير الآيتين قولين:
▪ أحدهما: أن المراد به قربه تعالى بعلمه وإحاطته، والذين فسروه بذلك ظنوا أن تفسيره بقرب ذاته يستلزم الحلول والاتحاد، أو يوهم ذلك ففروا منه إلى تفسيره بالعلم والإحاطة وسندوا تفسيرهم بأمرين:
1 - أن الله تعالى ذكر القرب في سورة "ق" بعد العلم فقال: {ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}، فدل ذلك على أن المراد قربه بعلمه وإحاطته.
2 - أن العلم من لوازم القرب إذا كان القريب كامل الصفات ولازم اللفظ من معناه كما سبق في كلامنا على المعية. وتفسير اللفظ بلازم معناه لاسيما مع وجود قرائن لفظية في السياق لا يخرج الكلام عن ظاهره، ولا يعد تأويلاً.
▪ القول الثاني: أن المراد بقربه تعالى قرب ملائكته وسندوا تفسيرهم بأمرين أيضاً:
أحدهما: أن الله تعالى ذكر القرب مقيداً فقيده في سورة ق بقوله: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد}، فإن قوله: {إذ يتلقى} متعلق بقوله: {أقرب}، فيكون هذا تفسيراً لمعنى القرب وقيده في سورة الواقعة بحال الاحتضار فقال: {وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون}، ثم إن في قوله: {ولكن لا تبصرون}، دليلاً على أن هذا الأقرب في نفس المكان ولكن لا نبصره وهذا لا يكون إلا للملائكة لأن الله تعالى لا يمكن أن يحل في مكان المحتضر.

والشيء إذا أضافه الله تعالى إلى نفسه بلفظ الجمع لم يمتنع أن يراد ملائكته كما في قوله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه}، والذي يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، وإذا كان في الكلام ما يدل على المراد من سياق الكلام، أو قرائن الأحوال لم يكن تفسيره بمقتضى ذلك صرفاً للكلام عن ظاهره، ولا يعد تأويلاً.

والقول الثاني في تفسير القرب في الآيتين هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وضعف تفسيره بالعلم والإحاطة، وقال في شرح حديث النزول ص 494 ج5 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: "ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة والرؤية"، قال: "وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية". ثم ذكر الفرق بينهما بمقتضى النص واللغة وقال ص 502: "فلا يجعل لفظ مثل لفظ مع تفريق القرآن بينهما".

وأما القرب المذكور في قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}.
والقرب المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو موسى عنه: "أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً، تدعون سميعاً بصيراً قريباً" (رواه البخاري في الباب التاسع من كتاب التوحيد)، ومسلم في الباب الثالث عشر من كتاب الذكر والدعاء وزاد: "والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم"، ورواه أحمد في المسند ص 402 ج 4 بلفظ: "من عنق راحلته".

* أقول: أما القرب المذكور في هذه الآية والحديث فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول ص 508ج 5 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: "فهنا هو نفسه سبحانه وتعالى القريب المجيب الذي يجيب دعوة الداعي لا الملائكة"، إلى أن قال ص 510: "وأما قرب الرب قرباً يقوم به بفعله القائم بنفسه فهذا تنفيه الكلابية، ومن يمنع قيام الأفعال الاختيارية بذاته، وأما السلف وأئمة الحديث والسنة فلا يمنعون ذلك وكذلك كثير من أهل الكلام". وقال قبل ذلك ص 466: "وأما دنوه بنفسه وتقربه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة، ونزوله واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر".
وقال قبل ذلك ص 460: "وأصل هذا أن قربه تعالى ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويدنو من خلقه كيف يشاء كما قال ذلك من قاله من السلف".أ.ه. وقد سبق ما نقلناه عن العقيدة الواسطية له من أن ما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه ليس كمثله شيء في جميع نعوته فهو علي في دنوه قريب في علوه.
وقال محمد بن الموصلي في مختصره للصواعق المرسلة لابن القيم ص 410-413 ط الإمام: "فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قرباً ليس له نظير، وهو مع ذلك فوق سماواته على عرشه"، قال: "والذي يسهل عليك فهم هذا معرفة عظمة الرب وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده، والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش".أ.ه.
وإنما ذهب الشيخان إلى أن المراد بالقرب في الآية والحديث قرب الله تعالى بنفسه لدلالة اللفظ عليه بدون مانع شرعي ولا عقلي.
ففي الآية الكريمة أضاف الله الضمائر من أولها إلى آخرها لنفسه بضمير الواحد فقال: {عبادي}، {عني}، {فإني}، {قريب}، {أجيب}، {دعان}، {لي}، {بي}، ومحال أن تكون هذه الضمائر لغيره.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "تدعون سميعاً بصيراً قريباً"، "والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"، والصحابة إنما يدعون الله فيكون القريب هو نفسه، وهذا غير مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى فإنه تعالى ليس كمثله شيء، فليس قربه لعبده كقرب غيره، بل هو قرب لا نظير له، لائق بجلاله وعظمته لا يكيف، ولا يمثل، ولا ينافي علوه، واستواءه على عرشه.

- المثال السادس والسابع: قوله تعالى عن سفينة نوح: {تجري بأعيننا}، وقوله عن موسى: {ولتصنع على عيني}، قال فضيلتكم عن الآية الأولى: هل يصح أن نفسرها على ظاهرها أن السفينة تسير وتجري في عين الله؟ وقلتم عن الثانية: هل يفهم عاقل أن موسى ربي في عين الله.
والحقيقة أنه لا يمكن أن نقول: إن السفينة تجري في عين الله؟ ولا أن موسى ربي في عين الله ولكن من يقول: إن هذا هو ظاهر الكلام حتى يتعين صرفه عن ظاهره؟ فالله تعالى لم يقل: "تجري في أعيننا"، ولم يقل: "ولتصنع في عيني" حتى يقال: إن ظاهر الكلام أن عين الله ظرف للسفينة وظرف لموسى وإنما قال: {تجري بأعيننا}، كما قال: {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا}، وقد فسرها ابن عباس وقتادة بعين الله تعالى حقيقة نقله ابن جرير عنهما ص 309ج 15 تحقيق محمود محمد شاكر.
والمعنى: تجري مرئية بأعيننا. واصنع الفلك مرئيّاً بأعيننا وحسب وحينا، وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الكلام غير مستحيل على الله تعالى فإنه قد جاء في الكتاب والسنة وإجماع السلف ثبوت العين لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به من غير تكييف ولا تمثيل.
وأما تفسيرها بمرأى منا فهو صحيح أيضاً لأنه تفسير باللازم، فإنها إذا كانت تجري بعين الله تعالى لزم أن يراها، والتفسير باللازم غير خارج عن دلالة ظاهر اللفظ كما سبق من أن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة فلا يكون تأويلاً، ولا صرفاً له عن ظاهره.
وقال: {ولتصنع على عيني}، قال ابن كثير ص 422ج5 ط أولى المنار: "قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله، وقال قتادة: تغذى على عيني".أ.ه. وهذا تفسير للعين بحقيقة معناها، والمعنى: ولتربى على مرأى مني بعيني، وهو معنى صحيح موافق لظاهر الكلام غير مستحيل على الله تعالى كما سبق.
وأما تفسيرها بمرأى مني فنقول فيه كما قلنا في الآية السابقة.

- المثال الثامن: ذكر فضيلتكم حديث: "الحجر الأسود يمين الله في أرضه"، وذكرت في ص ... من عدد ... أنه حديث صحيح وأنه يتعين تأويله.
وهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية ص 85ج 2 نشر إدارة العلوم الأثرية: "هذا حديث لا يصح، وإسحاق بن بشر قد كذبه أبو بكر بن أبي شيبة وغيره، وقال الدارقطني هو في عداد من يضع الحديث".أ.ه. وذكر حديثاً آخر من حديث عبد الله بن عمرو وقال: "لا يثبت، قال أحمد: عبد الله بن مؤمل أحاديثه مناكير، وقال علي بن الجنيد: شبه المتروك".أ.ه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 397 ج6 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: "روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس قال: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه"، ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره، فإنه قال: "يمين الله في الأرض" فقيده بقوله في الأرض، ولم يطلق فيقول: "يمين الله" وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق، ثم قال: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه"، ومعلوم أن المشبه غير المشبه به وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً، ولكن شبه بمن يصافح الله فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم لكل عاقل".أ.ه. وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني رقم 222 ص 25 من الجزء الثالث المجلد الأول قال: هو حديث موضوع وذكره من رواية الكاهلي إسحاق بن بشر، ونقل عن ابن العربي قوله: هذا حديث باطل فلا يلتفت إليه، ثم ذكر الألباني للكاهلي متابعاً من طريق أبي علي الأهوازي وقال: إنه متهم، فالحديث باطل على كل حال، ثم نقل عن ابن قتيبة أنه أخرجه عن ابن عباس موقوفاً عليه، وقال الألباني: الموقوف أشبه وإن كان في سنده ضعيف جداً فإن إبراهيم هذا وهو الخوزي متروك كما قاله أحمد والنسائي.

فإذا كان الحديث موضوعاً باطلاً لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي ثبوته عن ابن عباس رضي الله عنهما نظر فإنه لا يحتاج إلى الخوض في معناه، ولا وجه لإلزام أهل السنة وهم السلف بالقول بتأويله.

ثم على تقدير ثبوته عن ابن عباس رضي الله عنهما وتسليم أنه من المرفوع حكماً فإنه لا يحتاج إلى تأويل لوضوح معناه كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

- المثال التاسع: ذكر فضيلتكم قوله تعالى في الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
وهذا حديث صحيح خرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "