تحديث النفس بالطلاق

السؤال: أنا متزوج وحدثت مشكله بيني وبين زوجتي، فقلت في نفسي: أنتِ طالق. ولم أتلفَّظ بها، ولم انطق بها، وسألت البعض؛ فقالوا لي: إن الطلاق وقع. قلت: ما الدليل؟ قالوا لي: الدليل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، ووجدت اختلافاً في تفسير الآية يتلخص في الآراء التالية: - إنها منسوخة ورُفِعَ الحُكم. - إنها مُحكَمَة مخصوصة في معني كتمان الشهادة. - أنها مُحكَمَة عامة غير منسوخة، وإن الله محاسب خلقه علي ما عملوا من عمل وعلي ما لم يعملوه. رجاء أفتني؛ لأني حياتي في جحيم؛ هل الطلاق في حديث النفس يقع؟

الإجابة

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الطلاق لا يقع بمجرد تحديث النفس به، أو التفكير فيه، أو العزم عليه، ما لم يُتلفظ به. باتفاق العلماء؛ لانعدام اللّفظ أصلاً، وشذَّ الزّهريّ وقال بوقوعه.

وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل تجاوز لأمتي ما وسوست به وحدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" (متفق عليه من حديث أبى هريرة)، وأخرجه النسائي والترمذي بلفظ: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل"، قال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم، أن الرجل إذا حدث نفسه بالطلاق لم يكن شيءٌ حتى يتكلم به".

وقال ابن قدامة رحمه الله: "وجملة ذلك أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ؛ فلو نواه بقلبه من غير لفظ, لم يقع في قول عامة أهل العلم; منهم عطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ويحيى بن أبي كثير والشافعي وإسحاق، وروي أيضا عن القاسم وسالم والحسن والشعبي".

أما قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، فمنسوخ بقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعائشة وأبو هريرة والشعبي وعطاء ومحمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة، وجماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: "لما نزلت {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، قالسبحانه: ((قد فعلت))، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قالسبحانه: ((قد فعلت))، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}، قال سبحانه: ((قد فعلت))، في رواية فلما فعلوا ذلك نسخها الله ثم أنزل تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، والحديث نصٌّ في محل النزاع.

وقد أجاب أبو محمد ابن حزم في "المحلى" على من أوقع الطلاق بالنيَّة فقال:
"الفرض والورع أن لا يحكم حاكم ولا يفتي مفت بفراق زوجة عقد نكاحها بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغير قرآن أو سنة ثابتة.
واحتج من ذهب إلى هذا القول بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات، ولكل امرئ ما نوى".

وهذا الخبر حجة لنا عليهم، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفرد فيه النِّيَّة عن العمل، ولا العمل عن النِّيَّةِ ، بل جمعهما جميعا، ولم يوجب حكماً بأحدهما دون الآخر - وهكذا نقول: إن من نوى الطلاق ولم يلفظ به، أو لفظ به ولم ينوه فليس طلاق، إلا حتى يَلْفِظ به وينويه، إلا أن يخص نص شيئا من الأحكام بِإِلْزَامِهِ بِنِيَّةٍ دُونَ عَمَلٍ ، أو بعمل دون نيَّة؛ فنقف عنده، وبالله تعالى التوفيق.

واحتجوا أيضاً - بأن قالوا: إنكم تقولون: من اعتقد الكفر بقلبه فهو كافر وإن لم يلفظ به، وتقولون: إن المصر على المعاصي عَاصٍ آثِمٌ مُعَاقَبٌ بذلك وتقولون: إن من قذف محصنة في نفسه فهو آثِمٌ، ومن اعتقد عداوة مؤمن ظلماً فهو عاصٍ لله عز وجل -وإن لم يظهر ذلك بقول أو فعل- ومن أعجب بعلمه أو راءى فهو هالك.

قلنا: أما اعتقاد الكفر، فإن القرآن قد جاء بذلك نصا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41]، فخرج هؤلاء بنصوص القرآن والسنن عَمَّا عُفِيَ عَنْهُ.

وأيضاً - فإن العفو عن حديث النفس إنما هو عن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة لهم بنص الخبر، ومن أَسَرَّ الْكُفْرَ فليس من أمته عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن هذه الفضيلة.

وأما الْمُصِرُّ على المعاصي فليس كما ظننتم، صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من همَّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه".

فصح أن الْمُصِرَّ الآثِمَ بإصراره هو الذي عمل السيئة ثم أصرَّ عليها - فهذا جمع نية السوء والعمل السوء معاً.

وأما من قَذَفَ مُحصنة في نفسه فقد نهاه الله عز وجل عن الظن السوء، وهذا ظن سوء، فخرج عما عُفِيَ عَنْهُ بِالنَّصِّ، ولا يحل أن يقاس عليه غيره فيخالف النص الثابت في عفو الله عز وجل عن ذلك.

وأما من اعتقد عداوة مسلم فإن لم يَضُرَّ بِهِ بِعَمَلٍ ولا بكلام فإنما هو بِغْضَةٌ وَالْبِغْضَةُ التي لا يقدر المرء على صرفها عن نفسه لا يؤاخذ بها، فإن تعمد ذلك فهو عاص، لأنه مأمور بموالاة المسلم ومحبته، فتعدى ما أمره الله تعالى به، فلذلك أثم.

وهكذا الرِّيَاءُ وَالْعَجْبُ قد صح النهي عنهما، ولم يأتِ نص قط بإلزام طلاق، أو عَتَاقٍ، أو رجعة، أو هبة، أو صدقة بالنفس، لم يلفظ بشيء من ذلك، فوجب أنه كله لغو، وبالله تعالى التوفيق".

وبهذا البيان يتبين أن من طلق امرأته في نفسه لم يلزمه الطلاق حتى يتلفظ به،، والله أعلم.