فَصْــل في تبيين الرسـول للأصول الموصلة إلى الحق

السؤال: فَصْــل في تبيين الرسـول صلى الله عليه وسلم الأصول الموصلة إلى الحق

الإجابة

الإجابة:

فالرسول صلى الله عليه وسلم بين الأصول الموصلة إلى الحق أحسن بيان، وبين الآيات الدالة على الخالق سبحانه وأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، ووحدانيته، على أحسن وجه، كما قد بسط في مواضع‏.‏

وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم فهم لم يثبتوا الحق، بل أصَّلوا أصولا تناقض الحق‏.‏

فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلوا على الحق حتى أصَّلوا أصولا تناقض الحق، ورأوا أنها تناقض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدموها على ما جاء به الرسول‏.‏

ثم تارة يقولون‏:‏ الرسول جاء بالتخييل، وتارة يقولون‏:‏ جاء بالتأويل، وتارة يقولون‏:‏ جاء بالتجهيل‏.‏

فالفلاسفة ومن وافقهم أحيانًا يقولون‏:‏ خاطب الجمهور بالتخييل لم يقصد إخبارهم بالأمر على ما هو عليه، بل أخبرهم بخلاف ما الأمر عليه ليتخيلوا ما ينفعهم‏.‏

وهذا قول من يعرف بأنه كان يعرف الحق، كابن سينا وأمثاله، ويقولون‏:‏ الذي فعله من التخييل غاية ما يمكن‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ لم يعرف الحق، بل تَخيَّل وخَيَّل، كما يقوله الفارأبي وأمثاله‏.‏

ويجعلون الفيلسوف أفضل من النبي، ويجعلون النبوة من جنس المنامات‏.‏

وأما أكثر المتكلمين فيقولون‏:‏ بل لم يقصد أن يخبر إلا بالحق، لكن بعبارات لا تدل وحدها عليه، بل تحتاج إلى التأويل ليبعث الهمم على معرفته بالنظر والعقل، ويبعثها على تأويل كلامه ليعظم أجرها‏.‏

والملاحدة يسلكون مسلك التأويل ويفتحون باب القرمطة، وهؤلاء يجوزون التأويل مع الخاصة‏.‏

وأما أهل التخييل فيقولون‏:‏ الخاصة قد عرفوا أن مراده التخييل للعامة، فالتأويل ممتنع‏.

‏‏ والفريقان يسلكون مسلك إلجام العوام عن التأويل، لكن أولئك يقولون‏:‏ لها تأويل يفهمه الخاصة‏.

‏‏ وهي طريقة الغزالى في ‏[‏الإلجام‏]‏‏.

‏‏ استقبح أن يقال‏:‏ كذبوا للمصلحة‏.‏

وهو أيضًا لا يرى تأويل الأعمال كالقرامطة، بل تأويل الخبر عن الملائكة وعن اليوم الآخر‏.

‏ وكذلك طائفة من الفلاسفة ترى التأويل في ذلك‏.‏

وهذا مخالف لطريقة أهل التخييل‏.‏

وقد ذكر الغزالى هذا عنهم في ‏[‏الإحياء‏]‏ لما ذكر إسرافهم في التأويل، وذكره في مواضع، كما حكى كلامه في ‏[‏السبعينية‏]‏ وغيرها‏.

‏‏ والقسم الثالث‏:‏ الذين يقولون‏:‏ هذا لا يعلم معناه إلا الله، أو له تأويل يخالف ظاهره لا يعلمه إلا الله‏.

‏‏ فهؤلاء يجعلون الرسول وغيره غير عالمين بما أنزل الله‏.

‏‏ فلا يسوغون التأويل؛ لأن العلم بالمراد عندهم ممتنع‏.‏ ولا يستجيزون القول بطريقة التخييل لما فيها من التصريح بكذب الرسول‏.‏

بل يقولون‏:‏ خوطبوا بما لا يفهمونه؛ ليثابوا على تلاوته والإيمان بألفاظه وإن لم يفهموا معناه‏ يجعلون ذلك تعبدًا محضَا على رأى المجبرة الذين يجوزون التعبد بما لا نفع فيه للعامل، بل يؤجر عليه‏.‏

والكلام على هؤلاء وفساد قولهم مذكور في مواضع‏.‏ والمقصود هنا أن الذي دعاهم إلى ذلك ظنهم أن المعقول يناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ظاهر ما أخبر به الرسول‏.‏

وقد بسط الكلام على رد هذا في مواضع، وبين أن العقل لا يناقض السمع، وأن ما ناقضه فهو فاسد‏.

‏‏ وبين بعد هذا أن العقل موافق لما جاء به الرسول، شاهد له، ومصدق له‏.

‏‏ لا يقال‏:‏ إنه غير معارض فقط، بل هو موافق مصدق، فأولئك كانوا يقولون‏:‏ هو مكذب مناقض‏.

‏‏ بين أولا أنه لا يكذب ولا يناقض، ثم بين ثانيًا أنه مصدق موافق‏.

‏‏ وأما هؤلاء فيبين أن كلامهم الذي يعارضون به الرسول باطل لا تعارض فيه‏.

‏ ولا يكفي كونه باطلا لا يعارض، بل هو أيضًا مخالف لصريح العقل‏.‏ فهم كانوا يدعون أن العقل يناقض النقل‏.‏

فيبين أربع مقامات‏:‏ أن العقل لا يناقضه‏.‏

ثم يبين أن العقل يوافقه‏.

‏‏ ويبين أن عقلياتهم التي عارضوا بها النقل باطلة‏.

‏‏ ويبين أيضًا أن العقل الصريح يخالفهم‏.‏

ثم لا يكفي أن العقل يبطل ما عارضوا به الرسول، بل يبين أن ما جعلوه دليلا على إثبات الصانع إنما يدل على نفيه‏.‏

فهم أقاموا حجة تستلزم نفي الصانع، وإن كانوا يظنون أنهم يثبتون بها الصانع‏.

‏‏ والمقصود هنا أن كلامهم الذي زعموا أنهم أثبتوا به الصانع إنما يدل على نفي الصانع وتعطيله‏.‏

فلا يكفي فيه أنه باطل لم يدل على الحق، بل دل على الباطل الذي يعلمون هم وسائر العقلاء أنه باطل‏.

‏‏ ولهذا كان يقال في أصولهم‏:‏ ‏[‏ترتيب الأصول في تكذيب الرسول‏]‏‏.

‏‏ ويقال أيضًا هي‏:‏ ‏[‏ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول‏]‏‏.

‏‏ جعلوها أصولا للعلم بالخالق، وهي أصول تناقض العلم به‏.

‏‏ فلا يتم العلم بالخالق إلا مع اعتقاد نقيضها‏.

‏‏ وفَرْقٌ بين الأصل والدليل المستلزم للعلم بالرب، وبين المناقض المعارض للعلم بالرب‏.

‏‏ فالمتفلسفة يقولون‏:‏ إنهم أثبتوا واجب الوجود‏.‏

وهم لم يثبتوه، بل كلامهم يقتضي أنه ممتنع الوجود‏.

‏‏ والجهمية والمعتزلة ونحوهم يقولون‏:‏ إنهم أثبتوا القديم المحدث للحوادث، وهم لم يثبتوه، بل كلامهم يقتضي أنه ما ثم قديم أصلا‏.‏

وكذلك الأشعرية والكَرَّامية وغيرهم ممن يقول‏:‏ إنه أثبت العلم بالخالق، فهم لم يثبتوه، لكن كلامهم يقتضي أنه ما ثَمَّ خالق‏.‏

وهذه الأسماء الثلاثة هي التي يُظْهرها هؤلاء واجب الوجود، والقديم، والصانع أو الخالق، ونحو ذلك‏.

‏‏ ثم إنه من المعلوم بضرورة العقل أنه لا بد في الوجود من موجود واجب بنفسه قديم أزلى محدث للحوادث‏.

‏‏ فإذا كان هذا معلومًا بالفطرة والضرورة والبراهين اليقينية، وكانت أصولهم التي عارضوا بها الرسول تناقض هذا، دل على فسادها جملة وتفصيلًا‏.

‏‏ وقد ذكرنا في مواضع أن الإقرار بالصانع فطرى ضروري مع كثرة دلائله وبراهينه‏.

‏‏ ونقول هنا ‏:‏ لا ريب أنا نشهد الحوادث كحدوث السحاب، والمطر والزرع، والشجر، والشمس، وحدوث الإنسان وغيره من الحيوان ، وحدوث الليل والنهار، وغير ذلك‏.‏

ومعلوم بضرورة العقل أن المحدَث لابد له من مُحدِث، وأنه يمتنع تسلسل المحدثات بأن يكون للمحدَثِ محدِث، وللمحدِث محدِث، إلى غير غاية‏.‏

وهذا يسمى تسلسل المؤثرات والعلل، والفاعلية، وهو ممتنع باتفاق العقلاء ، كما قد بسط في مواضع، وذكر ما أورد عليه من الإشكالات‏.

‏ حتى ذكر كلام الآمدي، والأَبْهَرَى ‏[‏هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح التميمى الأبهرى، شيخ المالكية في العراق، له تصانيف في شرح مالك والرد على مخالفيه منها ‏[‏الرد على المزني‏]‏ و‏[‏الأصول‏]‏، وغيرها كثير، وكان ثقة أمينًا مستورًا، وانتهت إليه الرياسة في مذهب مالك‏]‏ مع كلام الرازي، وغيرهم‏.‏

مع أن هذا بديهي ضرورى في العقول، وتلك الخواطر من وسوسة الشيطان‏.‏

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد إذا خطر له ذلك أن يستعيذ بالله منه، وينتهي عنه‏.‏

فقال "يأتى الشيطان أحدكم فيقول‏:‏ من خلق كذا‏؟‏ من خلق كذا‏؟‏ فيقول‏:‏ الله‏.‏ فيقول‏:‏ فمن خلق الله‏؟‏ فإذا وجد ذلك أحدكم فليستعذ بالله ولينته‏"‏‏‏.‏

ومعلوم أن المحْدَثَ الواحد لا يحدث إلا بمحْدِثٍ‏.

‏‏ فإذا كثرت الحوادث وتسلسلت كان احتياجها إلى المحدِث أولى‏.

‏‏ وكلها محدَثَات، فكلها محتاجة إلى محدِث‏.‏

وذلك لا يزول إلا بمحدثٍ لا يحتاج إلى غيره، بل هو قديم أزلي بنفسه سبحانه وتعالى‏.‏

وإذا قيل‏:‏ إن الموجود إما قديم وإما محدَثٌ، والمحدَثُ لابد له من قديم، فيلزم وجود القديم على التقديرين، كان برهانًا صحيحًا ،وكذلك إذا قيل‏:‏ إما ممكن وإما واجب، وبين الممكن بأنه المحدث كان من هذا الجنس‏.‏

وأما إذا فسر الممكن بما يتناول القديم، كما فعل ابن سينا وأتباعه كالرازي، كان هذا باطلاً‏.‏

فإنه على هذا التقدير لا يمكن إثبات الممكن المفتقر إلى الواجب ابتداء، والدليل لا يتم إلا بإثبات هذا ابتداء‏.‏

وإنما يمكن ذلك في أن المحدَث لابد له من محدِث‏.‏

فإن هذا تشهد أفراده وتعلم بالعقل كلياته‏.

‏‏ وأما إثبات قديم أزلي ممكن، فهذا مما اتفق العقلاء على امتناعه‏.

‏‏ وابن سينا وأتباعه وافقوا على امتناعه، كما ذكروه في المنطق تبعًا لسلفهم، لكن تناقضوا أولا‏.‏

فسلفهم وهم يقولون‏:‏ الممكن العامى والخاصى الذي يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا حادثًا، لا يكون ضروريًا، وكل ما كان قديمًا أزليًا فهو ضروري عندهم‏.‏

وكذلك إذا قيل‏:‏ الموجود؛ إما أن يكون مخلوقًا وإما ألا يكون مخلوقًا، والمخلوق لابد له من موجود غير مخلوق، فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين‏.

‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ الموجود؛إما غنى عن غيره، وإما فقير إلى غيره، والفقير المحتاج إلى غيره لا تزول حاجته وفقره إلا بغنى عن غيره، فيلزم وجود الغنى عن غيره على التقديرين‏.‏

وكذلك إذا قيل‏:‏ الحي؛ إما حى بنفسه، وإما حى حياته من غيره، وما كانت حياته من غيره فذلك الغير أولى بالحياة، فيكون حيًا بنفسه، فثبت وجود الحي بنفسه على التقديرين‏.

‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ العالم؛ إما عالم بنفسه، وإما عالم علمه غيره، ومن علم غيره فهو أولى أن يكون عالمًا، وإذا لم يتعلم من غيره كان عالمًا بنفسه، فثبت وجود العالم بنفسه على التقديرين الحاصرين، فإنه لا يمكن سوى هذين التقديرين والقسمين‏.‏

فإذا كان لا يمكن إلا أحدهما، وعلى كل تقدير العالم بنفسه موجود والحي بنفسه موجود، والغنى بنفسه موجود، والقديم الواجب بنفسه موجود، لزم وجوده في نفس الأمر وامتناع عدمه في نفس الأمر، وهو المطلوب‏.

‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ القادر؛ إما قادر بنفسه، وإما قادر قدَّره غيره، ومن أقدر غيره فهو أولى أن يكون قادرًا‏.

‏‏ وإذا لم تكن قدرته من غيره، كانت قدرته من لوازم نفسه، فثبت وجود القادر بنفسه الذي قدرته من لوازم نفسه، وعلمه من لوازم نفسه، وحياته من لوازم نفسه، على كل تقدير‏.‏

وكذلك الحكيم إما أن يكون حكيمًا بنفسه، وإما أن تكون حكمته من غيره‏.

‏ ومن جعل غيره حكيمًا، فهو أولى أن يكون حكيمًا، فيلزم وجود الحكيم بنفسه على التقديرين‏.

‏‏ وكذلك إذا قيل‏:‏ الرحيم؛ إما أن تكون رحمته من نفسه، وإما أن يكون غيره جَعَله رحيمًا‏.‏

ومن جعل غيره رحيمًا فهو أولى أن يكون رحيمًا وتكون رحمته من لوازم نفسه، فثبت وجود الرحيم بنفسه الذي رحمته من لوازم نفسه على التقديرين‏.‏

وكذلك إذا قيل‏:‏ الكريم المحسن؛ إما أن يكون كرمه وإحسانه من نفسه وإما أن يكون من غيره‏.‏

ومن جعل غيره كريمًا محسنًا فهو أولى أن يكون كريمًا محسنًا وذلك من لوازم نفسه‏.

‏‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى امرأة من السبي إذا رأت طفلا أرضعته رحمة له، فقال "أترون هذه طارحة ولدها في النار‏؟‏‏‏ قالوا‏:‏ لا، يا رسول الله‏!‏ فقال‏:‏ ‏‏لله أرحم بعباده من هذه بولدها‏"‏‏‏.‏

فبين أن الله أرحم بعباده من أرحم الوالدات بولدها‏.‏

فإنه من جعلها رحيمة أرحم منها‏.‏

وهذا مما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏‏وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏}‏‏ ‏[‏العلق‏:‏ 3‏]‏، وقولنا‏:‏ ‏[‏الله أكبر‏]‏ فإنه سبحانه أرحم الراحمين‏.‏

وخير الغافرين، وخير الفاتحين، وخير الناصرين، وأحسن الخالقين، وهو نعم الوكيل، ونعم المولى، ونعم النصير‏.

‏‏ وهذا يقتضي حمدًا مطلقًا على ذلك، وأنه كافي من توكل عليه، وأنه يتولى عبده توليًا حسنًا، وينصره نصرًا عزيزًا‏.‏

وذلك يقتضي أنه أفضل وأكمل من كل ما سواه، كما يدل على ذلك قولنا‏:‏ ‏[‏الله أكبر‏]‏‏.‏

وكذلك إذا قيل‏:‏ المتكلم السميع البصير إما أن يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا بنفسه، وإما أن يكون غيره جعله سميعًا بصيرًا، متكلمًا‏.‏

ومن جعل غيره متكلمًا سميعًا بصيرًا، فهو أولى أن يكون متكلمًا سميعًا بصيرًا، وإلا كان المفعول أكمل من الفاعل، فإن هذه صفات كمال‏.

‏‏ وكذلك يقال‏:‏ العادل؛ إما أن يكون عادلا بنفسه‏.

‏‏ والصادق؛ إما أن يكون صادقًا بنفسه، وإما أن يكون غيره جعله صادقًا عادلًا‏.

‏‏ ومن جعل غيره صادقًا عادلًا، فهو أولى أن يكون صادقًا عادلًا‏.

‏‏ فهذه كلها طرق صحيحة بينة‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ يُعَارَضُ هذا بأن يقال‏:‏ من جعل غيره ظالمًا أو كاذبًا فهو أيضًا ظالم كاذب، وأهل السنة يقولون‏:‏ إنه جعل غيره كذلك ،وليس هو كذلك سبحانه، قيل‏:‏ هذا باطل من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ليس كل من جعل غيره على صفة أى صفة كانت كان متصفًا بها، بل من جعل غيره على صفة من صفات الكمال فهو أولى باتصافه بصفة الكمال من مفعوله‏.

‏‏ وأما صفات النقص، فلا يلزم إذا جعل الجاعل غيره ناقصًا أن يكون هو ناقصًا‏.

‏‏ فالقادر يقدر أن يعجز غيره ولا يكون عاجزًا‏.

‏‏ والحي يمكنه أن يقتل غيره ويميته ولا يكون ميتًا‏.‏

والعالم يمكنه أن يُجَهِّل غيره ولا يكون جاهلًا‏.

‏‏ والسميع والبصير والناطق يمكنه أن يعمى غيره، ويصمه، ويخرصه، ولا يكون هو كذلك‏.‏

فلا يلزم حينئذ أن من جعل غيره ظالمًا وكاذبًا أن يكون كاذبًا وظالمًا؛ لأن هذه صفة نقص‏.‏

فإن قيل‏:‏ الكاذب والظالم قد يلزم غيره بالصدق والعدل أحيانًا، قيل‏:‏ هو لم يجعله صادقًا وعالمًا وإنما أمره بذلك، وهو فعل ذلك بنفسه‏.

‏‏ ولم نقل‏:‏ كل من أمر غيره بشيء كان متصفًا بما أمر به غيره‏.‏

الثانى‏:‏ أن الظلم أمر نسبى إضافي، فمن أمر غيره أن يقتل شخصًا فقتله هذا القاتل من غير جرم يعلمه كان ظالمًا، وإن كان ذلك الآمر إنما أمره به لكونه قد قتل أباه والمأمور لم يفعله لذلك‏.‏

فلو فعله بطريق النيابة لم يكن ظالمًا‏.

‏‏ فإن كان له معه غرض فقتله ظلمًا، ولكن الآمر كان مستحقًا لقتله‏.‏

وكذلك من أمر غيره بماهو كذب من المأمور كأمر يوسف للمؤذن أن يقول‏:‏ ‏{‏‏أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}‏‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 70‏]‏، يوسف عليه السلام قصد‏:‏ إنكم لسارقون يوسف من أبيه، وهو صادق في هذا‏.‏

والمأمور قصد‏:‏ إنكم لسارقون الصواع، وهو يظن أنهم سرقوه، فلم يكن متعمدًا للكذب، وإن كان خبره كذبًا‏.‏

والرب تعالى لا تقاس أفعاله بأفعال عباده‏.

‏‏ فهو يخلق جميع ما يخلقه لحكمة ومصلحة، وإن كان بعض ما خلقه فيه قبح، كما يخلق الأعيان الخبيثة كالنجاسات وكالشياطين لحكمة راجحة، وبسط هذا له موضع آخر‏.

‏‏ والمقصود هنا أن دلائل إثبات الرب كثيرة جدًا‏.‏

وهؤلاء الذين يزعمون أن المعقول يعارض خبر الرسول الذين يقولون إنهم أثبتوا واجب الوجود، أو القديم، أو الصانع هم لم يثبتوه، بل حججهم تقتضى نفيه وتعطيله، فهم نافون له‏.‏

لا مثبتون له‏.‏

وحججهم باطلة في العقل، لا صحيحة في العقل‏.‏

والمعرفة بالله ليست موقوفة على أصولهم‏.

‏‏ بل تمام المعرفة موقوف على العلم بفساد أصولهم وإن سموها ‏[‏أصول العلم والدين‏]‏ فهي ‏[‏أصول الجهل وأصول دين الشيطان لا دين الرحمن‏]‏‏.‏

وحقيقة كلامهم‏:‏ ‏[‏ترتيب الأصول في مخالفة الرسول والمعقول‏]‏، كما قال أصحاب النار‏:‏ ‏{‏‏لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير}ِِ‏ ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏، فمن خالف الرسول فقد خالف السمع والعقل خالف الأدلة السمعية والعقلية‏.‏

أما القائلون بواجب الوجود، فقد بينا في غير موضع أنهم لم يقيموا دليلاً على واجب الوجود‏.

‏‏ وأن الرازي لما تبع ابن سينا، لم يكن في كتبه إثبات واجب الوجود‏.‏

فإنهم جعلوا وجوده موقوفًا على إثبات ‏[‏الممكن‏]‏ الذي يدخل فيه القديم‏.

‏‏ فما بقى يمكن إثبات واجب الوجود على طريقهم إلا بإثبات ممكن قديم، وهذا ممتنع في بديهة العقل واتفاق العقلاء‏.‏

فكان طريقهم موقوفًا على مقدمة باطلة في صريح العقل‏.

‏ وقد اتفق العقلاء على بطلانها، فبطل دليلهم‏.

‏‏ ولهذا كان كلامهم في ‏[‏الممكن‏]‏ مضطربًا غاية الاضطراب‏.‏

ولكن أمكنهم أن يستدلوا على أن المحدث لابد له من قديم، وهو واجب الوجود‏.‏

ولكن قد أثبتوا قديمًا ليس بواجب الوجود‏.‏

فصار ما أثبتوه من القديم يناقض أن يكون هو رب العالمين؛ إذ أثبتوا قديمًا ينقسم إلى واجب وإلى غير واجب‏.

‏‏ وأيضًا، فالواجب الذي أثبتوه قالوا‏:‏ إنه يمتنع اتصافه بصفة ثبوتية‏.‏

وهذا ممتنع الوجوب،لا ممكن الوجوب، فضلا عن أن يكون واجب الوجود، كما قد بسط هذا في مواضع، وبين أن الواجب الذي يدعونه يقولون‏:‏ إنه لا يكون لا صفة ولا موصوفًا البتة‏.

‏ وهذا إنما يتخيل في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان‏.

‏‏ والواجب إذا فسر بمبدع الممكنات فهو حق، وهو اسم للذات المتصفة بصفاتها‏.‏

وإذا فسر بالموجود بنفسه الذي لا فاعل له فالذات واجبة والصفات واجبة‏.‏

وإذا فسر بما لا فاعل له ولا محدث، فالذات واجبة والصفات ليست واجبة‏.

‏‏ وإذا فسر بما ليس صفة ولا موصوفًا فهذا باطل لا حقيقة له‏.‏

بل هو ممتنع الوجود، لا ممكن الوجود، ولا واجب الوجود‏.‏

وكلما أمعنوا في تجريده عن الصفات، كانوا أشد إيغالا في التعطيل، كما قد بسط في مواضع‏.‏

وأما الذين قالوا إنهم أثبتوا القديم من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم من الأشعرية والكَراية الذين استدلوا بحدوث الأعراض ولزومها للأجسام، وامتناع حوادث لا أول لها، على حدوث الأجسام فهؤلاء لم يثبتوا الصانع؛ لما عرف من فساد هذا الدليل حيث ادعوا امتناع كون الرب متكلمًا بمشيئته أو فعَّالا لما يشاء‏.‏

بل حقيقة قولهم امتناع كونه لم يزل قادرًا‏.

‏‏ وأدلتهم على هذا الامتناع قد ذكرت مستوفاة في غير هذا الموضع، وذكر كلامهم هم في بيان بطلانها‏.

‏‏ وأما كونهم عطلوا الخالق، فلأن حقيقة قولهم أن من لم يزل متكلمًا بمشيئته فهو محدث، فيلزم أن يكون الرب محدثًا، لا قديمًا‏.‏

بل حقيقة أصلهم أن ما قامت به الصفات والأفعال فهو محدث، وكل موجود فلا بد له من ذلك، فيلزم أن يكون كل موجود محدثًا‏.‏

ولهذا صرح أئمة هذا الطريق الجهمية والمعتزلة بنفي صفات الرب، وبنفي قيام الأفعال وسائر الأمور الاختيارية بذاته؛ إذ هذا موجب دليلهم‏.‏

وهذه الصفات لازمة له، ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم‏.‏

فكان حقيقة قولهم نفي الرب وتعطيله‏.‏

وهم يسمون الصفات أعراضًا، والأفعال ونحوها حوادث‏.

‏‏ فقالوا‏:‏ الرب ينزه عن أن تقوم به الأعراض والحوادث‏.

‏‏ فإن ذلك مستلزِم أن يكون جسمًا‏.‏

قالوا‏:‏ وقد أقمنا الدليل على حدوث كل جسم‏.‏

فإن الجسم لا ينفك من الأعراض المحدثة ولا يسبقها، وما لم ينفك عن الحوادث ولم يسبقها فهو حادث‏.‏

وقد قامت الأدلة السمعية والعقلية على مذهب السلف،وأن الرب لم يزل متكلمًا إذا شاء، فيلزم على قولهم أنه لم يسبق الحوادث ولم ينفك عنها‏.‏

ويجب على قولهم كونه حادثًا‏.

‏‏ فالأصل الذي أثبتوا به القديم هو نفسه يقتضي أنه ليس بقديم، وأنه ليس في الوجود قديم‏.‏

كما أن أولئك أصلهم يقتضي أنه ليس بواجب بذاته،وأنه ليس في الوجود واجب بذاته‏.‏

والطريق التي قالوا بها يثبت الصانع مناقضة لإثبات الصانع‏.‏

وإذا قالوا‏:‏ لا يمكن العلم بالصانع إلا بها، كان الحق أن يقال‏:‏ بل لا يمكن تمام العلم بالصانع إلا مع العلم بفسادها‏.‏

ولهذا كان كل من أقر بصحتها قد كذب بعض ما أخبر به الرسول مما هو من لوازم الرب، ونفي اللازم يقتضي نفي الملزوم‏.‏

والذين زعموا أنهم يحتجون به على حدوث الأجسام من جنس ما زعم أولئك أنهم يحتجون به على إمكان الأجسام‏.‏ وكل منهما باطل‏.

‏‏ومقتضاه حدوث كل موجود وإمكان كل موجود، وأنه ليس في الوجود قديم ولا واجب بنفسه‏.‏

فأصولهم تناقض مطلوبهم‏.‏

وهي طريقة مُضِلَّةٌ، لا هادية‏.‏ لكن كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36-37‏]‏‏.

‏‏ وأما الذين يقولون‏:‏ نثبت الصانع والخالق، ويقولون‏:‏ إنا نسلك غير هذه الطريق، كالاستدلال بحدوث الصفات على الرب‏.

‏‏ فإن هذه تدل عليه من غير احتياج إلى ما التزمه أولئك‏.‏

والرازي قد ذكر هذه الطريق‏.

‏‏ وأما الأشعرى نفسه، فلم يستدل بها‏.‏ بل ‏[‏في اللمع‏]‏، و‏[‏رسالته إلى الثغر‏]‏، استدل بالحوادث على حدوث ما قامت به، كما ذكره في النطفة بناء على امتناع حوادث لا أول لها‏.

‏‏ ثم جعل حدوث تلك الجواهر التي ذكر أنه دل على حدوثها هو الدليل على ثبوت الصانع‏.

‏‏ وهذه الطريق باطلة، كما قد بين‏.

‏‏ وأما تلك فهي صحيحة، لكن أفسدوها من جهة كونهم جعلوا الحوادث المشهود لهم حدوثها هي الأعراض فقط، كما قد بينا هذا في مواضع‏.

‏‏ ثم يقال‏:‏ هؤلاء يثبتون خالقًا لا خلق له‏.

‏‏وهذا ممتنع في بداية العقول، فلم يثبتوا خالقًا‏.

‏‏ والكَرَّامية، وإن كانوا يقولون‏:‏ الخلق غير المخلوق، فهم يقولون بحدوث الخلق بلا سبب يوجب حدوثه‏.

‏‏ وهذا أيضًا ممتنع‏.‏

فما أثبتوا خالقًا‏.‏

وأيضًا، فهؤلاء وهؤلاء يقولون‏:‏ الموجب للتخصيص بحدوث ما حدث دون غيره هو إرادة قديمة أزلية‏.‏

فالكَرَّامية يقولون‏:‏ هي المخصص لما قام به وما خلقه‏.

‏‏ وهؤلاء عندهم لم يقم به شيء يكون مرادًا، بل يقولون‏:‏ هي المخصص لما حدث‏.‏

والطائفتان ومن وافقهم يقولون‏:‏ تلك الإرادة قديمة أزلية لم تزل على نعت واحد، ثم وجدت الحوادث بلا سبب أصلا‏.‏

ويقولون‏:‏ من شأنها أن تخصص مثلًا على مثل، ومن شأنها أن تتقدم على المراد تقدمًا لا أول له‏.

‏‏ فوصفوا الإرادة بثلاث صفات باطلة يعلم بصريح العقل أن الإرادة لا تكون هكذا‏.‏

وهي المقتضية للخلق والحدوث، فإذا أثبتت فلا خلق ولا حدوث‏.‏

وكذلك القدرة التي أثبتوها وصفوها بما يمتنع أن يكون قدرة، وهي شرط في الخلق‏.‏

فإذا نفوا شرط الخلق، انتفي الخلق، فلم يبق خالقًا، فالذي وصفوا به الخالق يناقض كونه خالقًا، ليس بلازم لكونه خالقًا‏.‏

وهم جعلوه لازمًا، لا مناقضًا‏.‏

أما الإرادة، فذكروا لها ثلاثة لوازم، والثلاثة تناقض الإرادة‏.‏

قالوا‏:‏ إنها تكون ولا مراد لها، بل لم يزل كذلك ثم حدث مرادها من غير تحول حالها‏.‏

وهذا معلوم الفساد ببديهة العقل‏.‏ فإن الفاعل إذا أراد أن يفعل، فالمتقدم كان عزمًا على الفعل، وقصدًا له في الزمن المستقبل لم يكن إرادة للفعل في الحال‏.‏

بل إذا فعل فلابد من إرادة الفعل في الحال‏.‏

ولهذا يقال‏:‏ الماضى عزم‏.

‏‏ والمقارن قصد‏.‏

فوجود الفعل بمجرد عزم من غير أن يتجدد قصد من الفاعل ممتنع‏.‏

فكان حصول المخلوقات بهذه الإرادة ممتنعًا لو قدر إمكان حدوث بلا سبب، فكيف وذاك أيضًا ممتنع في نفسه‏؟‏ فصار الامتناع من جهة الإرادة، ومن جهة تعينت بما هو ممتنع في نفسه‏.‏

الثانى‏:‏ قولهم‏:‏ إن الإرادة ترجح مثلًا على مثل‏:‏ فهذا مكابرة، بل لا تكون الإرادة إلا لما ترجح وجوده على عدمه عند الفاعل‏.

‏‏ إما لعلمه بأنه أفضل، أو لكون محبته له أقوى‏.

‏‏ وهو إنما يترجح في العلم لكون عاقبته أفضل‏.

‏‏ فلا يفعل أحد شيئًا بإرادته إلا لكونه يحب المراد، أو يحب ما يؤول إليه المراد بحيث يكون وجود ذلك المراد أحب إليه من عدمه، لا يكون وجوده وعدمه عنده سواء‏.

‏‏ الثالث‏:‏ أن الإرادة الجازمة يتخلف عنها مرادها مع القدرة، فهذا أيضًا باطل‏.

‏ بل متى حصلت القدرة التامة والإرادة الجازمة وجب وجود المقدور، وحيث لا يجب فإنما هو لنقص القدرة أو لعدم الإرادة التامة‏.

‏‏ والرب تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن‏.

‏‏ وهو يخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أمورًا لم يفعلها، كما قال‏:‏ ‏{‏‏وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏} ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏، ‏{‏‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً‏} ‏[‏هود‏:‏ 118‏]‏، ‏{‏‏وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ‏} ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

فبين أنه لو شاء ذلك لكان قادرًا عليه‏.‏

لكنه لا يفعله؛ لأنه لم يشأه؛ إذ كان عدم مشيئته أرجح في الحكمة مع كونه قادرًا عليه لو شاءه‏.‏

وقد بسط الكلام على ما يذكرونه في القدرة والإرادة هم وغيرهم في غير هذا الموضع‏.

‏‏ وأن من هؤلاء من يقول‏:‏إنما يقدر على الأمور المباينة له دون الأفعال القائمة بنفسه،كما يقول ذلك المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم‏.

‏‏ومنهم من يقول‏:‏ بل يقدر على ما يقوم به من الأفعال، وعلى ما هو باين عنه، كما يحكى عن الكَرَّامية‏.

‏‏ والصواب الذي دل عليه القرآن والعقل؛ أنه يقدر على هذا وهذا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهٍُ‏} ‏[‏القيامة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى}‏‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 40‏]‏ ، وقال ‏ {‏‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم‏}‏‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ‏} ‏[‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏، وهذا كثير في القرآن أكثر من النوع الآخر‏.‏

فإن ما قاله الكَرَّامية والهشامية أقرب إلى العقل والنقل مما قالت الجهمية ومن وافقهم، وإن كان فيما حكوه عنهم خطأ من جهة نفيهم القدرة على الأمور المباينة‏.

‏‏ والله تعالى قد أخبر أنه على كل شيء قدير‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي مسعود لما رآه يضرب غلامه ‏:‏ ‏[‏لله أقدر عليك منك على هذا‏]‏‏.

‏‏ وفي القرآن‏:‏ ‏{‏‏فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ‏} ‏[‏الزخرف‏:‏ 41- 42‏]‏، وبسط هذا له مواضع أخر‏.

‏‏ فجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو لازم في نفس الأمر‏.

‏‏ وكل ما أثبته من صفات الرب فهو لازم‏.

‏‏ وإذا قدر عدمه لزم عدم الملزوم‏.‏ فنفي ما أخبر به الرسول مستلزم للتعطيل‏.

‏‏ لكن من ذلك ما يظهر بالعقل مع تفاوت الناس في العقل، ومنه ما يكفي فيه مجرد خبر الرسول‏.‏

فإن ما أخبر به الرسول فهو حق‏.

‏‏ وكل ما أثبت للرب فهو لازم الثبوت، وما انتفي عنه فهو لازم الانتفاء فإذا قدر عدم اللازم لزم عدم الملزوم‏.

‏‏ لكن هذا كله لازم المذهب، وهو يدل على بطلانه‏.‏ ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبًا، بل أكثر الناس يقولون أقوالًا ولا يلتزمون لوازمها‏.

‏‏ فلا يلزم إذا قال القائل ما يستلزم التعطيل أن يكون معتقدًا للتعطيل‏.‏

بل يكون معتقدًا للإثبات، ولكن لا يعرف ذلك اللزوم‏.

‏‏ وأيضًا، فإذا كانت أصولهم التي بنوا عليها إثبات الصانع باطلة، لم يلزم أن يكونوا هم غير مقرين بالصانع، وإن كان هذا لازمًا من قولهم‏.

‏‏ إذا قالوا‏:‏ إنه لا يعرف إلا بهذه الطريق، وقد ظهر فساده، لزم ألا يعرف‏.

‏‏ لكن هذا اللزوم يدل على فساد هذا النفي، ولا يلزم ألا يكونوا هم مقرين بالصانع لما قد بيناه في غير موضع أن الإقرار بالصانع، ومعرفته، ومحبته، وتوحيده فطري، يكون ثابتًا في قلب الإنسان، وهو يظن أنه ليس في قلبه‏.

‏ ولهذا كان عامة هؤلاء مقرين بالصانع، معترفين به، قبل أن يسلكوا هذه الطريق النظرية، سواء كانت صحيحة أو باطلة‏.‏

وهذا أمر يعرفونه من أنفسهم‏.

‏‏ فعلم أنه لا يلزم من عدم سلوك هذه الطريق عدم المعرفة‏.

‏‏ وقد اعترف كثير منهم بذلك، كما قد بيناه في مواضع‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ إن الطريق النظرية التي يسلكها زادته بصيرة وعلمًا‏.‏ كما يقوله ابن حزم وغيره‏.‏

وهو سَلْك طريقة الأعراض‏.‏

وكثير من الناس يقول‏:‏ إن هذه الطريق لم تفدهم إلا شكا وريبًا وفطرة هؤلاء أصح، فإنها طرق فاسدة‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ لم يحصل لى بها شيء لا علم ولا شك‏.

‏‏ وذلك أنها لم تحصل له علمًا ولا سلمها، فلم يتبين له صحتها ولا فسادها‏.‏

ومن الناس من لا يفهم مرادهم بها‏.‏

وأكثر أتباعهم لا يفهمونها، بل يتبعونهم تقليدًا وإحسانًا للظن بهم‏.

‏‏

_______________

<مجموع فتاوى ابن تيمية - 16 - المجلد السادس عشر (التفسير)