ماذا أفعل مع نفسي؟

السؤال: . أنا شابٌّ نشأ في أسرة متوَسِّطة الحال - والحمد لله - أنعم الله عليَّ رغم كثرة ذنوبي؛ فأنا الآن متزوج مِن زوجة أصغر منِّي بعشر سنوات، ولي منها أولاد. أما مشكلتي فهي نفسي الأمارة بالسوء، فمن أيام المراهقة اعتدتُ على تفريغ هذه القوة الجنسية إما بالاستمناء، أو أن أغويَ شخصًا لذلك في سني أو أقل مني. وكنتُ لا أُفَكِّر في إنشاء علاقات عاطفيَّة مع البنات؛ لإدراكي أن البنت في هذا الوقت تُريد مشاعر الحب أكثر منَ الجنس، فكنتُ أتعرف بسرعة على الشخص بسبب شخصيته الجذابة، وأغويه إلى ذلك، وكنتُ أفْشَل بواقع 2 من عشرة فقط مع أي شخص أتعرف علية. وفي هذا الوقت أيضًا كنتُ أصَلِّي، وأحافظ على الصلاة في الجماعة، وصلاة الفجر خاصة، وكنتُ أدعو الله كثيرًا أن يرحمني مِن هذا الفعل؛ لأني أعلم كل شيء عنه، ولأنِّي مُطَّلع إلى حدٍّ كبير على الكُتُب الإسلاميَّة، وأعرف الحُدُود والقصاص، وكل شيء أعلمه جيدًا. ولكن رأيتُ بعد زواجي بفترة اتِّجاهي إلى إغواء النساء، فقلتُ: قدر أخف من قدر، وكنتُ عندما أغوي امرأة، وتميل إليَّ، أذهب لأصلي وأبكي بين يدي الله ألا يوقعني في الفاحشة، وكنتُ لا أقطع العلاقة، وكان الله يستجيب لي، وفي مُعظم الأوقات كنتُ أخلو بفريستي، ومنَ الداخل أدعو الله، ولكن تغيَّرت حالتي، فأصبحْتُ أزني وأبكي، وأدعو وأغوي، واتَّجَه إغْوائي إلى الصِّغار ثانية، وأنا أحتقر نفسي، وفكَّرْتُ في الانتحار أفضل مِنْ غضَب الجبَّار، ولكنِّي تذكَّرْتُ آيات الرَّحمة، وعدم القُنُوط مِن رحمة الله، ولكنني أُصبح شخْصًا ثانيًا عندما أجد الهدف ولا أتركه إلاَّ بعد أن... أنا إنسان مُحب للدِّين، والصلاة، والصدَقات، وكل فِعْل الخَيْرات، وقراءة القرآن، فهل أنا مريض، أو مفتون؟ مِنْ فضلك لا تنصحني بشيء، فأنا فعلْتُ كل شيء إلاَّ الذهاب لدكتور نفسي، مع العلم أنِّي أستغفر وأفعل صدقات جارية لكلِّ مَن أغويتهم، وإن كانوا صغارًا فأفعل لوالديهم، وأدعو لهم كي يرضوا عنِّي عند الحساب، أرجو الرد سريعًا.

الإجابة

الإجابة: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فعلى الرغم مِن أنكَ طلبْتَ منِّي عدم النُّصح إلاَّ أنني سأنصح لك؛ لأنَّ النُّصح قد تعيَّن علينا بتلك الرسالة، من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكر.
واسْمح لي: فأنا لا أصدق ما زعمتَ من حب الدِّين، والصلاة، والصدَقات، وكل فِعْل الخَيْرات، وقراءة القرآن، أنكَ فعلتَ كل شيء وما زلت في تلك الحال التي وصفتها؛ إذ لو أنك هاجرْتَ لله حقًّا وصدقًا لَهَدَى اللهُ قلبك، ووفَّقك للخير، وعصَمَك منَ الزلَل؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} الليل: [5 - 10]،
والمعنى: أنَّ مَن صدّق بكلمة التوحيد وما دلَّتْ عليه، من جميع العقائد، وما ترتب عليها من الجزاء الأُخروي، وأتى بشُرُوطها، فسيسهل الله عليه أمره، ويجعله ميَسَّرًا لكلِّ خير، تاركًا لكلِّ شرّ؛ لأنه أتى بأسباب التيْسِير، فيسر الله له ذلك.
فمِنْ ثواب الحسَنة الحسنةُ بعدها، ومن جزاء السيئة السيئةُ، فالله تعالى أعلم بالشاكرين بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سُبُل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا؛ كما قال تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وهذا بخلاف ما لَم يعمل الخير وما أمر به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمحْ نفسُه بأداء ما وجب لله، أو لَم يرَ نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربِّها، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودَها، الذي تقصده وتتوجَّه إليه.
ولهذا؛ فإنا ندعوك إلى التوبة النَّصوح، والاستغفار الصادر عن ندَم، مع حل عقد الإصرار، فتلك هي التوبة النصوح، أما الاستغفارُ مع الإصرار، فلا يرجى معه الكف، وهو جدير بالرد، وتكثير الأوزار؛ كما قال بعض العارفين: "الاستغفار باللِّسان توبةُ الكذَّابين"، ليست المغفرة مرجوة لمن قالها بلسانه، غافلاً عنْ معْناها، معْرِضًا عن تدبُّرها، ولم يواطئ قلبُه لسانه، ولا عرَف قدرها وحقيقتها، فإنَّ الأعمال لا تتفاضَل بصورِها وعددها، وإنما تتفاضَل بتفاضُل ما في القلوب، فتكون صورة العَمَلَيْن واحدة، وبينهما في التفاضُل كما بين السماء والأرض، يبيِّن هذا ويزيده جلاءً أحاديثُ التوبة الكثيرة؛ كالرجل الذي قتل مائة نفس - وأظنه أعظم ذنبًا منك - لَمَّا فرَّ إلى الله وهاجَر مِنَ الأرض الخبيثة، قبضتْه ملائكة الرحمة.
ولذلك؛ رغم قولك: إنك فعلت كل شيء، فأنا أقول لك: إنَّكَ لو عدتَ إلى الله بتوبةً صادقة بحقّ، وأتَيْتَ بِشُرُوطها، وفارَقْتَ مَوْضِع معصيتك، وابتعدْتَ عنْ كل ما مِن شأنه فتنتك وردك للمعصية - لصلح حالك؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 110، 111].
فاللهُ تعالى يغفر الذنب العظيم لِمن استغفره وتاب إليه وأناب، ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك الموجِب لثوابه وزوال عقابه.
روى مسلم عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربِّه - عزَّ وجلَّ - قال: "أذْنَبَ عبد ذنبًا، فقال: اللهُمَّ اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذْنَبَ عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذنب عبدي ذنبًا، فعَلِم أنَّ له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرْتُ لك".
قال أبو العباس القرطبي في "المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم": "... يدل على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله، وسعة رحمته، وحلمه وكرمه، ولا شك في أن هذا الاستغفار ليس هو الذي ينطق به اللسان، بل الذي يثبت معناه في الجَنان، فيحل به عقد الإصرار، ويندم معه على ما سلف من الأوزار، فإذًا الاستغفار ترجمة التوبة، وعبارة عنها، ولذلك قال: ((خياركم كل مفتن تواب))، قيل: هو الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة، وأما مَنْ قال بلسانه: أستغفر الله، وقلبه مُصِرٌّ على معْصِيَتِه، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبار؛ إذْ لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار.
وفائدة هذا الحديث: أن العود إلى الذنب، وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه انْضَافَ إلى الذنب نقضُ التوبة، فالعودُ إلى التوبة أحسنُ مِن ابتدائها؛ لأنها انضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنوب سواه.
وقوله: ((اعمل ما شئت، فقد غفرت لك)): أن هذا الأمر يحتمل أن يكون معناه الإكرام، فيكون من باب قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} (الحجر: 46).
فخُذ نفسك بالشدة، وأكثر من الاستغفار، واحْذَرْ نقمة العزيز القَهَّار،

نقلاً عن موقع الآلوكة