حكم البيع إلى أجل معلوم بشرط الخيار

ما قولكم - عفا الله عنكم - فيما شاع بين الناس - خصوصاً في هذه المقاطعة - وهو البيع إلى أجل. وذلك أن الفقير إذا ضرب الزمان على يديه، ذهب إلى الغني ليساعده بقرض ونحوه، فيأبى إلا أن يرى أن قرضه هذا يجر له منفعة، فيقول للفقير: أعطني شيئاً من أرضك الزراعية بيعاً إلى أجل، وما ذلك إلا حيلة لأجل استغلال الأرض، يأخذها الغني بدون مقابل لصاحب الأرض، ويمكث صاحب القرض يمتص خيرات الأرض سنين عديدة، وقد تبلغ عشرين سنة أو أقل، والفقير لا يجد ما يؤدي به فلوس المقرض، علماً بأن الغلال التي قد اقتصها صاحب القرض تزيد عن قرضه. فأفتونا رحمكم الله هل البيع إلى أجل صحيح أم باطل؟ وإذا كان باطلاً، فهل الغلال تحسم من فلوس الغني، أم كيف المسألة؟ جزيتم خيراً[1].

الإجابة

قد اختلف أهل العلم في جواز البيع بشرط الخيار إلى أجل معلوم، إذا كانت المدة أكثر من ثلاثة أيام؛ فأجازه قوم ومنعه آخرون.

والأصح جوازه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً))[2] في أدلة أخرى.

لكن ذكر جمع من أهل العلم القائلين بالجواز: أن ذلك يتقيد بما إذا كان القصد من البيع هو رغبة البائع في البيع، والمشتري في الشراء، ولكن جرى شرط الخيار لريبة في المبيع، أو الثمن، أو لمقصد آخر حسن.

أما إذا كان المقصود من عقد البيع هو انتفاع المشتري بغلة المبيع، وانتفاع البائع بالثمن، وفي عزمهما فسخ البيع عند إيسار البائع بالثمن، فليس ذلك بجائز، بل هو من الربا؛ لأنه في معنى القرض، وكل قرض شرط فيه النفع فهو محرم بالإجماع.

ولا ريب أن مقصود المشتري في مثل هذا استغلال المبيع حتى يرد إليه الثمن؛ لئلا يفوت عليه نفع ماله الذي قبضه البائع، وكل حيلة يستحل بها الربا فهي باطلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل))[3] أخرجه أبو عبد الله بن بطة بإسناد حسن، وفي معناه ما ثبت في الصحيحين عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم؛ جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها))[4].

وقد صرح جماعة من أهل العلم بهذه المسألة وبينوا تحريمها، ومنهم الشيخ العلامة/ عبد الرحمن بن أبي عمر الحنبلي صاحب (الشرح الكبير) وإليك نص كلامه: قال في المجلد الرابع، صفحة (80) فصل: (إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض؛ ليأخذ غلة المبيع، ونفعه في مدة انتفاع المقترض بالثمن، ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن، فلا خيار فيه؛ لأنه من الحيل، ولا يحل لآخذ الثمن الانتفاع به في مدة الخيار ولا التصرف فيه.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يشتري من الرجل الشيء، ويقول: لك الخيار على كذا وكذا مثل العقار، قال: هو جائز إذا لم يكن حيلة؛ أراد أن يقرضه فيأخذ منه العقار، فيستغله ويجعل له فيه الخيار؛ ليربح فيما أقرضه بهذه الحيلة، فإن لم يكن أراد هذا فلا بأس.

قيل لأبي عبد الله: فإن أراد إرفاقه؛ أراد أن يقرضه مالاً يخاف أن يذهب، فاشترى منه شيئاً وجعل له الخيار؛ لم يرد الحيلة؟ فقال أبو عبد الله: هذا جائز، إلا أنه إذا مات انقطع الخيار لم يكن لورثته.

وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة، محمول على المبيع الذي لا ينتفع به إلا بإتلافه، أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار؛ لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة)[5]. انتهى كلام صاحب (الشرح الكبير).

ومنه يعلم، أن البيع إذا خلا عن مقصد القرض لم يكن به بأس، ومراده بأبي عبد الله، هو أحمد بن حنبل رحمه الله.

ومن علامات الحيلة: أن يبيعه العقار ونحوه بأقل من قيمته التي يباع بها لو كان المقصود البيع حقيقة؛ كأن يبيع ما يساوي مائة بخمسين؛ وما ذاك إلا لأنه واثق بأنه ليس ببيع، وإنما هو قرض في صورة البيع.

والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

[1] نشر في مجلة (راية الإسلام)، العدد: 8، السنة الأولى، عام 1380 ه، ص: 43- 45.

[2] رواه الترمذي في (الحكام)، باب (ما ذكر عن رسول الله - صلى الله علي وسلم - في الصلح)، برقم: 1352.

[3] ذكره الحافظ ابن قيم الجوزية في حاشيته على سنن أبي داود، عند التعليق على الحديث رقم: 3462 في (كتاب البيوع)، باب (النهي عن العينة).

[4] رواه البخاري في (تفسير القرآن)، باب (قوله - تعالى -: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ  برقم: 4633، ومسلم في (المساقاة)، باب (تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)، برقم: 1582.

[5] (الشرح الكبير) لأبي عبد الرحمن بن أبي عمر الحنبلي، ج4، ص: 80.