فصل في التفرقة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

السؤال: فصل في التفرقة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان

الإجابة

الإجابة: فصل:

وإذا عرف أن الناس فيهم ‏[‏أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‏]‏ فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏‏ ‏[‏يونس ‏:‏62‏-‏ 63‏]‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح الذى رواه البخاري وغيره عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏يقول الله‏:‏ من عادى لي ولياً فقد بارزنى بالمحاربة أو فقد آذنته الحرب وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبى يمشى‏.‏ ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه‏" وهذا أصح حديث يروى في الأولياء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادى ولياً لله فقد بارز الله بالمحاربة ‏.‏

وفي حديث آخر‏:‏ ‏‏"‏وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب‏"‏‏ أي آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذى وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏‏"‏أوثق عرى الإيمان‏:‏ الحب في الله والبغض في الله‏" وفي حديث آخر رواه أبو داود قال‏:‏ ‏‏"‏ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".

و ‏[‏الولاية‏]‏ ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن الولي سمى ولياً من موالاته للطاعات أي متابعته لها، والأول أصح‏.

‏‏ والولي القريب، فيقال‏:‏ هذا يلي هذا، أي يقرب منه‏.‏

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏"‏ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذَكَر"‏‏ أي لأقرب رجل إلى الميت‏.‏

وأكده بلفظ ‏[‏الذكر‏]‏ ليبين أنه حكم يختص بالذكور، ولا يشترك فيها الذكور والإناث كما قال في الزكاة ‏‏"‏فابن لبون ذكر‏"‏‏‏.‏

فإذا كان ولى الله هو المرافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمره به وينهى عنه كان المعادى لوليه معادياً له كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ‏}‏‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، فلهذا قال‏:‏ ‏‏"‏ومن عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة‏"‏‏‏.‏

وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم‏:‏ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا‏}‏‏ ‏[‏ الشورى‏:‏ 13‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 8-7‏]‏ ‏.‏

وأفضل أولى العزم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين، وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة، الذى بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم، وهم آخر الأمم خلقاً، وأول الأمم بعثاً، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏‏"‏نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم؛ فهذا يومهم الذى اختلفوا فيه يعنى يوم الجمعة فهدانا الله له‏:‏ الناس لنا تبع فيه، غداً لليهود وبعد غد للنصارى‏".

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏"‏أنا أول من تنشق عنه الأرض" وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏"‏آتى باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن‏:‏ من أنت ‏؟‏ فأقول‏:‏ أنا محمد، فيقول‏:‏ بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك‏"‏‏‏.‏

وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة، ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه، فلا يكون ولياً لله إلا من آمن به وبما جاء به، واتبعه باطناً وظاهراً‏.

‏‏ ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 31‏]‏، قال الحسن البصري رحمه الله ‏:‏ ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم، وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه‏.

‏‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ‏}‏‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏ ‏[‏ البقرة ‏:‏111- 112‏]‏ ‏.

‏‏ وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ}‏‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 66- 67‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ‏}‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏30 34‏]‏ فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه‏.‏ ولا أولياء بيته، إنما أولياؤه المتقون ‏.‏

وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهاراً من غير سر‏:‏ ‏‏"‏إن آل فلان ليسوا لي بأولياء يعنى طائفة من أقاربه إنما ولى الله وصالح المؤمنين‏"‏‏ وهذا موافق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}‏‏ الآية ‏[‏ التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وصالح المؤمنين هو من كان صالحاً من المؤمنين، وهم المؤمنون المتقون أولياء الله‏.‏

ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏‏"‏لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة"‏‏ ومثل هذا الحديث الآخر‏:‏ ‏‏"‏إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا‏"‏‏‏.

‏‏ كما أن من الكفار من يدعى أنه ولى الله وليس ولياً لله، بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه مرسل إلى جميع الإنس، بل إلى الثقلين الإنس والجن، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك، مثل ألا يقروا في الباطن بأنه رسول اله، وإنما كان ملكا مطاعاً ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقولون‏:‏ إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى، أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته، كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها، أو لم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته ‏.‏

وقد يقول بعض هؤلاء‏:‏ إن ‏[‏أهل الصُّفَّة‏]‏ كانوا مستغنين عنه، ولم يرسل إليهم، ومنهم من يقول‏:‏ إن الله أوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج، فصار أهل الصفة بمنزلته، وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الإسراء كان بمكة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏‏ ‏[‏ الإسراء‏:‏ 1‏]‏، وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة، وكانت صفة في شمالي مسجده صلى الله عليه وسلم ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم؛ فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه ‏.‏

ولم يكن ‏[‏أهل الصفة‏]‏ ناساً بأعيانهم يلازمون الصفة، بل كانوا يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها زماناً ثم ينتقل منها‏.

‏‏ والذين ينزلون بها من جنس سائر المسلمين؛ ليس لهم مزية في علم ولا دين، بل فيهم من ارتد عن الإسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم كالعرنيين الذين اجتووا المدينة أي استوخموها فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح أي إبل لها لبن وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا الراعي، واستاقوا الذود فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون‏.‏

وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس، وفيه أنهم نزلوا الصفة‏.‏ فكان ينزلها مثل هؤلاء، ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبى وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل عنها ونزلها أبو هريرة وغيره ‏.‏

وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي ‏[‏هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن خالد بن سالم بن زاوية بن سعيد بن قبيصة بن سراق الأزدى السلمى الحافظ المحدث،شيخ خراسان وكبير الصوفية أبو عبد الرحمن النيسابورى الصوفي صاحب التصانيف، ولد سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، صنف في علوم القوم سبعمائة جزء وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الأبواب والمشايخ، وكانت تصانيفه مقبولة، قال عنه الخطيب‏:‏ غير ثقة، وكان يضع للصوفية الأحاديث‏.

‏‏ مات في شهر شعبان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة‏.‏ ‏[‏سير أعلام النبلاء‏:‏ 17/247 255 ‏]‏ تاريخ من نزل الصفة ‏.

‏‏ وأما ‏[‏الأنصار‏]‏ فلم يكونوا من أهل الصفة، وكذلك أكابر المهاجرين كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبى عبيدة وغيرهم، لم يكونوا من أهل الصفة‏.

‏‏ وقد روي أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏‏"‏هذا واحد من السبعة‏"‏‏ وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحلية، وكذا كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة ‏[‏الأولياء‏]‏ و‏[‏الأبدال‏]‏ و‏[‏النقباء‏]‏ و‏[‏النجباء‏]‏ و‏[‏الأوتاد‏]‏ و‏[‏الأقطاب‏]‏ مثل أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شىء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ ‏[‏الأبدال‏]‏‏.‏

وروى فيهم حديث‏:‏ أنهم أربعون رجلاً وأنهم بالشام، وهو في المسند من حديث على رضى الله عنه‏.‏

وهو حديث منقطع ليس بثابت، ومعلوم أن علياً ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر على، وقد أخرجا في الصحيحين عن أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏‏"‏تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏" وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة على، فقتلهم على بن أبى طالب وأصحابه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبى طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما ‏؟‏

وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنشد منشد ‏:‏

قد لسعت حية الهوى كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي

إلا الحبيب الذى شغفت به ** فعنده رقيتى وترياقي

وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم‏:‏ ‏‏"‏أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش‏"،، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر الأحاديث كذباً عليه صلى الله عليه وسلم ‏.

‏‏ وكذلك ما يروونه عن عمر رضى الله عنه أنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجى‏.

‏‏ وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ‏.‏

والمقصود هنا أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر من يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك، فيكون منافقاً وهو يدعى في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما عناداً وإما جهلاً، كما أن كثيراً من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله، وأن محمداً رسول الله، ولكن يقولون‏:‏ إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب، وأنه لا يجب علينا إتباعه؛ لأنه أرسل إلينا رسلاً قبله، فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله‏:‏ ‏{‏‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62- 63‏]‏ ‏.‏

ولابد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمن بكل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏ ‏[‏ البقرة ‏:‏136- 137 ‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ‏}‏‏ إلى آخر السورة ‏[‏البقرة ‏:‏285- 286‏]‏‏.‏

وقال في أول السورة‏:‏ ‏{‏‏الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 5‏]‏ ‏.

‏‏ فلابد في الإيمان من أن تؤمن أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده، وأن الله أسر له إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن؛ فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين؛ ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150 152‏]‏ ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان‏.‏

وأما خلق الله تعالى للخلق، ورزقه إياهم، وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار، فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل‏.‏

ثم لو بلغ الرجل في ‏[‏الزهد والعبادة والعلم‏]‏ ما بلغ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى، كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم، وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من المشركين مشركى العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه وليس مؤمناً بجميع ما جاء به فهو كافر عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولى لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفاراً مجوساً‏.

‏‏ وكذلك حكماء ‏[‏اليونان‏]‏ مثل أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب، وكان أرسطو قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة، وكان وزيراً للإسكندر بن فيلبس المقدوني، وهو الذى تؤرخ به تواريخ الروم واليونان، وتؤرخ به اليهود والنصارى، وليس هذا هو ذو القرنين الذى ذكره الله في كتابه، كما يظن بعض الناس أن أرسطو كان وزيراً لذي القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الإسكندر، وهذا قد يسمى بالإسكندر، ظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه وليس الأمر كذلك، بل هذا الإسكندر المشرك الذى قد كان أرسطو وزيره متأخر عن ذاك، ولم يبن هذا السد، ولا وصل إلى بلاد يأجوج و مأجوج، وهذا الإسكندر الذى كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعرف‏.‏

وفي أصناف المشركين من مشركى العرب ومشركى الهند والترك واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمتبع للرسل ولا يؤمن بما جاؤوا به ولا يصدقهم بما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين، قال تعالى‏:‏ ‏{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ‏}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221 223‏]‏‏.‏

وهؤلاء جميعهم ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلا بد أن يكذبوا، وتكذبهم شياطينهم‏.‏

ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة؛ ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الر حمن‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏36‏]‏ وذكر الرحمن هو الذكر الذى بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القرآن، فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره، فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ‏}‏‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 50‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏‏ ‏[‏طه‏:‏124 126‏]‏ فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، لهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائماً ليلاً ونهاراً مع غاية الزهد، وعبده مجتهداً في عبادته ولم يكن متبعاً لذكره الذى أنزله وهو القرآن كان من أولياء الشيطان ولو طار في الهواء أو مشى على الماء؛ فإن الشيطان يحمله في الهواء‏.‏

وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.