سئل رحمه الله عما يذكر من قولهم: اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة؟

السؤال: سئل رحمه الله عما يذكر من قولهم: اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة؟

الإجابة

الإجابة: وسئل رحمه الله عما يذكر من قولهم‏:‏ اتخذوا مع الفقير أيادى فإن لهم دولة وأى دولة‏؟‏‏!‏ وقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث مع أبي بكر رضى الله عنه وكنت بينهما كالزنجى، ما معنى ذلك؟‏ وقول بعض الناس لبعض‏:‏ نحن في بركتك، أو من وقت حللت عندنا حلت علينا البركة‏.‏

ونحن في بركة هذا الشيخ المدفون عندنا، هل هو قول مشروع أم لا؟‏ أفتونا مأجورين ‏.‏

فأجاب ‏:‏

الحمد لله، أما الحديثان الأولان فكلاهما كذب، وما قال عمر بن الخطاب ما ذكر عنه قط، ولا روى هذا أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف، وهو كلام باطل؛ فإن من كان دون عمر كان يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ويفهم ما ينفعه الله به، فكيف بعمر؟‏‏!‏ وعمر أفضل الخلق بعد أبي بكر، فكيف يكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بمنزلة كلام الزنجى ‏.

‏‏ ثم الذين يذكرون هذا الحديث من ملاحدة الباطنية؛ يدعون أنهم علموا ذلك السر الذي لم يفهمه عمر‏.

‏‏ وحمله كل قوم على رأيهم الفاسد، والنجادية يدعون أنه قولهم، وأهل الحقيقة الكونية الذين ينفون الأمر والنهى والوعيد يدعون أنه قولهم ‏.‏

وأهل الحلول الخاص أشباه النصارى يدعون أنه قولهم؛ إلى أصناف أخر يطول تعدادها‏.‏

فهل يقول عاقل‏:‏ إن عمر وهو شاهد لم يفهم ما قالا، وإن هؤلاء الجهال الضلال أهل الزندقة والإلحاد والمحال علموا معنى ذلك الخطاب، ولم ينقل أحد لفظه، وإنما وضع مثل هذا الكذب ملاحدة الباطنية، حتى يقول الناس‏:‏ إن ما أظهره الرسل من القرآن والإيمان والشريعة له باطن يخالف ظاهرة؛ وكان أبو بكر يعلم ذلك الباطن دون عمر، ويجعلون هذا ذريعة عند الجهال إلى أن يسلخوهم من دين الإسلام ‏.

‏‏ ونظير هذا ما يروونه أن عمر تزوج امرأة أبي بكر ليعرف حاله في الباطن، فقالت‏:‏ كنت أشم رائحة الكبد المشوية، فهذا أيضاً كذب، وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر، بل تزوجها على بن أبي طالب وكانت قبل أبي بكر عند جعفر، وهى أسماء بن عميس وكانت من عقلاء النساء، وعمر كان أعلم بأبي بكر من نسائه وغيرهم ‏.

‏‏ وأما الحديث الآخر وهو قوله‏:‏ ‏‏"‏اتخذوا مع الفقراء أيادي فإن لهم دولة و أى دولة‏!‏‏"‏‏ فهذا أيضاً كذب، ما رواه أحد من الناس، والإحسان إلى الفقراء الذين ذكرهم الله في القرآن، قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏‏إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ‏}‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏‏لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏}‏‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 271 273 ‏]‏، وأهل الفيء وهم الفقراء المجاهدون الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏‏لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ‏}‏‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏ 8 ‏]‏‏.

‏‏ والمحسن إليهم وإلى غيرهم عليه أن يبتغى بذلك وجه الله، ولا يطلب من مخلوق لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏‏ ‏[‏ الليل‏:‏ 17 21 ‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ‏}‏‏ الآية ‏[‏ الإنسان‏:‏ 8- 9 ‏]‏‏.‏

ومن طلب من الفقراء الدعاء أو الثناء خرج من هذه الآية؛ فإن في الحديث الذي في سنن أبي داود ‏‏"‏من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه‏"‏‏؛ ولهذا كانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للرسول‏:‏ اسمع ما دعوا به لنا؛ حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا، ويبقى أجرنا على الله ‏.

‏‏ وقال بعض السلف‏:‏ إذا أعطيت المسكين، فقال‏:‏ بارك الله عليك‏.‏ فقل‏:‏ بارك الله عليك‏.‏

أراد أنه إذا أثابك بالدعاء فادع له بمثل ذلك الدعاء، حتى لا تكون اعتضت منه شيئاً‏.

‏‏ هذا والعطاء لم يطلب منهم‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏"‏ما نفعني مال كمال أبي بكر"‏‏‏ أنفقه يبتغى به وجه الله، كما أخبر الله عنه، لا يطلب الجزاء من مخلوق لا نبي ولا غيره، لا بدعاء ولا شفاعة‏.‏

وقول القائل‏:‏ لهم في الآخرة دولة وأي دولة‏!‏، فهذا كذب، بل الدولة لمن كان مؤمناً تقياً فقيراً كان أو غنياً، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏‏ الآيتين ‏[‏ الروم‏:‏ 14- 15 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏}‏‏ ‏[‏ الانفطار‏:‏ 13-14 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏‏ ‏[‏ ص‏:‏ 28 ‏]‏ ونظير هذا في القرآن كثير‏.

‏‏ ومع هذا فالمؤمنون الأنبياء وسائر الأولياء لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله،كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 255 ‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى‏}‏‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏‏ ‏[‏الانفطار‏:‏19‏]‏ فمن أحسن إلى مخلوق يرجو أن ذلك المخلوق يجزيه يوم القيامة كان من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، بل إنما يجزى على الأعمال يومئذ الواحد القهار، الذي إليه الإياب والحساب، الذي لا يظلم مثقال ذرة، وإن تكن حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً‏.‏

ولا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الحادي عشر.