عناية العلماء ببعض المؤلفات العظيمة

السؤال: سؤال عن عناية العلماء ببعض المؤلفات العظيمة التي يتمنون وجودها

الإجابة

الإجابة: هي كثيرة جداً، وقد كثر هذا من العلماء، فاشتهر عن عدد كبير من أهل العلم تمنيهم للحصول على بعض الكتب، بل إن: "الرسالة" رسالة ابن أبي زيد القيرواني لما أتت إلى بغداد في عامِ تأليفها اشتريت بوزنها من الذهب، وضع الكتاب في كفة ووضع الذهب في كفة حتى شريت بوزنها من الذهب، وكان عدد كبير من الناس يتمنون هذه الكتب تمنياً عجيباً، حتى إن الخليفة الأموي الثالث الحكم المستنصر عندما أتى أبو على القارئ للأندلس ألَّف له كتابه: "الأمالي"، فجعل أبا علي في كفة والذهب في كفة فوزنه أعطاه وزنه هو من الذهب بدل هذا الكتاب، وعكف الخليفة على الكتاب حتى حفظ كل ما فيه هو وغلمانه وجواريه، وكذلك كانت الكتب تهدى إليه من بعيد فقد كان الناس إذا ألفوا كتاباً في خراسان أو في المشرق: بغداد أو في أي مكان جلبوه إليه، ولذلك قيل في ترجمته: "لم يجتمع في مكتبة من مكتبات الإسلام من الكتب ما اجتمع في مكتبته".

وكان الناس يهدون الكتب إلى الملوك وإلى الذين يجلون أهل العلم، فمن ذلك أن الإمام البيضاوي رحمه الله لما ألف تفسيره في بلاد الترك، كانت إذ ذاك تسمى بلاد الروم ذهب به يقصد به أحد الملوك يريد إهداءه إليه، فنزل ضيفاً على رجل من المتزهدة من الصوفية، فبات عنده، فسأله إلى أين تتجه بسفرك هذا؟ قال: أذهب بكتابي هذا إلى هذا الملك لعله يثيبني عليه، فسكت الصوفي، فلما كان من الصباح سأله فقال: ماذا قلت في تفسير قول الله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}؟ ففهم البيضاوي مقصد الرجل، فقطع سفره ورجع إلى بلده، فلحقته عطية الملك في بلده، أدركته حيث رجع، وهذا نظير ما حصل لأبي عثمان المازني رحمه الله عندما طلب منه رجلٌ من اليهود أن يكتب له كتاب سبويه بثلاثمائة دينار، فتذكر أن في كتاب سبويه ثلاثمائة آية، فقال: "لا أجعل ثلاثمائة آية من كتاب الله في يد يهودي" وكان فقيراً مُعدماً، فبينما هو على ذلك الحال وبناته يلُمنه على هذه الصفقة، إذا خيل البريد تسأل عنه، فركب خيل البريد إلى الخليفة الواثق ابن المعتصم، فأدخل عليه فوجده كانت لديه جارية تغني فأنشدت بين يديه:
أهدى السلام تحية ظلمو *** أغليم إن مصابكم رجلاً
فقال لها الخليفة ووزيره الفتح ابن خاقان: "أغليم إن مصابكم رجل" (خبر إنَّ)، فقالت: لا أنا رويتها عن شيخي أبي عثمان المازني في البصرة هكذا:
أغليم إن مصابكم رجلاً *** أهدى السلام تحية ظلمو
فأرسلوا خيل البريد في ذلك الوقت حتى جيء بأبي عثمان المازني، فسأله الخليفة فقال يا أمير المؤمنين: ألا ترى أن الكلام مغلق إلى قوله: "ظلمو" فظلمو هي خبر إنَّ، ورجلاً مفعول المصدر، وهو: "مصابكم" فرحَّب به وأعطاه ثلاثة آلاف دينار، ثم خيَّره قال: إن شئت رددتك إلى أهلك وإن شئت أقمت عندي مكرماً، فقال أريد الرجوع إلى أهلي، فسأله ما قال أهلك عندما خرجت فقال: قالت إحدى بناتي:
فإنا بخير إذا لم ترم *** أبانا فلا رمت من عندنا نجفا وتقطع منا الرحم *** فإنا إذا اضمرتك البلاد
فقال: فماذا قلت أنت؟ قال قلت قول جرير:
ومن عند الخليفة بالنجاح *** ثقي بالله ليس له شريك
فقال: نعم بالنجاح إن شاء الله، فأجرى عليه ثلاثة آلاف كل سنة، فأخبره بالقصة وما حصل ثم أجازه الفتح ابن خاقان، بألفين قال: لولا أن الخليفة أجازك بثلاثة آلاف لأجزتك بها، ولكن تأدباً مع الخليفة أنقص عن عطيته، ثم أجاز الخليفة الجارية بثلاثة آلاف فأهدتها إلى الشيخ، فرجع مكرماً إلى أهله بكل هذه العطايا.

وكذلك من حرصهم على الكتب وعنايتهم بها أن عدداً من الذين اشتهروا بالفتوحات والغزو مثل: صلاح الدين الأيوبي وغيره، كانوا يجلسون مجالس لنقد الكتب الجديدة التي ألفت في زمانهم، وكانت تُهدى إليهم الكتب، صلاح الدين كان لا يشغله الجهاد وتدبير أمر الدولة عن أن يجعل يوماً لمناقشة الكتب الجديدة، ولذلك أهدى إليه ابن مالك كتابه المثلث: "الأعلام بتثليث الكلام" يقول في مقدمته:
صلاته على الرضى الأواب *** اتباع حمد الملك الوهاب به ابتهاج النطق في الكتاب *** محمد وآله الأنجاب بنات فكر ناسبت إجلاله *** وبعد فالأولى بأن تجلى له في نصر أهل العلم والآداب *** ملك يباري فضله إفضاله من ربه بأسعد تزيد *** الناصر الذي له تأييد مستأصل يغني عن احتراب *** فمن عداه لهم مبيد لمن يواليه بجود وجده *** من جنده الأقدار فهي منجدة بأسهم لم تخل من اكساب *** ومن يناويه يجدها مقصدة من سمت بعزهم العلياء *** إلى صلاح الدين الإبتداء من مبتغي المربوب والأرباب *** ومن نوى إدراك ما يشاء منه على نيل العلا معين *** يمناه فيها للنهى معين إلا لقرب منه وانتساب *** فلم يرى لسؤدد تعيين طوعا وكرها هم له عبد *** قد لجأت له الملوك صيد إلا لأحرى الخلق بالعقاب *** إذ ليس لهم عنه محيد إلى اتساع في كلام العرب *** لما علمت أنه ذو أرب له كتاب فيه ذا احتساب *** أردت أن أجعل بعض قرب نحو حلمت وحلمت وحلم *** أحوي به أكثر تثليث الكلم به اعتنا قدما أولوا الألباب *** فحوز هذا الفن محمود مهم على الحروف بينا مرتبا *** وها أنا آتي به مبوبا ينساق معناه بلا استصعاب *** ملخصا مخلصا مهذبا
وكذلك لدى المتأخرين ولعٌ بالكتب التي تظهر وتشتهر، وقد حصل لبعض العلماء في هذا الزمان شيء من ذلك، فكانوا يفرحون بالكتب إذا وجدوها، حتى يقولون الشعر في الفرح بها، فالشيخ باب بن الشيخ سيديا رحمه الله لما طبع كتاب المنتقى للباجي على الموطأ، سمع أنه طبع في تركيا، فأوفد موفداً من بلاده (بلاد شنقيط) إلى تركيا ليأتيه بنسخة منه، فتكلف في ذلك مالاً طائلاً يقول فيه في قصيدة نسيت مطلعها إلى أن يقول:
بنيل كتاب المنتقى غير أنه *** نسرين روض في البلاد تفتقا
نتيجة نيل المنتقى لمن اتقى، وكذلك جدي رحمه الله عندما طبع "التقصي": وهو "تجريد التمهيد" لابن عبد البر، أتاه به أحد السفراء وكان مسافراً عن البلد سفراً طويلاً فقال فيه:
وهذا التقصي شاهد ليس يجرح *** تقصيت آثار المحامد تسرح بأيكما إذ جئتما كنت أفرح *** فو الله ما أدري وإن كنت داريا
وكذلك رغب في وجود نسخة مخطوطة من: "الذخيرة" للإمام القرافي، وكانت في الخزانة الملكية في الرباط، فصورها له أحد الوزراء وأتاه بها، فقال له أبيات يقول فيها: "ذخيرتنا أتاني بالذخيرة".



نقلاً عن موقع فضيلة الشيخ الددو على شبكة الإنترنت.