قول:‏ إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم...

السؤال: فَصْــل وأما قول السائل‏:‏ قد يعترض على هذا السؤال، وهو إذا كان حب اللقاء؛ لما رآه من النعيم، فالمحبة حينئذ للنعيم العائد عليه، لا لمجرد لقاء الله‏.

الإجابة

الإجابة: فَصْل

وأما قول السائل‏:‏ قد يعترض على هذا السؤال، وهو إذا كان حب اللقاء؛ لما رآه من النعيم، فالمحبة حينئذ للنعيم العائد عليه، لا لمجرد لقاء الله‏.‏

فيقال له‏:‏ ليس كذلك، ولكن لقاء الله على نوعين‏:‏ ‏[‏لقاء محبوب‏]‏ و‏[‏لقاء مكروه‏]‏ كما قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم سلمة بن دينار الأعرج‏:‏ كيف القدوم على الله تعالى‏؟‏ فقال‏:‏ المحسن كالغائب يقدم على مولاه، وأما المسيء كالآبق يقدم به على مولاه‏.‏

فلما كان اللقاء نوعين وإنما يميز أحدهما عن الآخر في الإخبار بما يوصف به هذا اللقاء، وهذا اللقاء وصف النبي صلى الله عليه وسلم اللقاء المحبوب بما تتقدمه البشرى بالخير، وما يقترن به من الإكرام، واللقاء المكروه بما يتقدمه من البشرى بالسوء، وما يقترن به من الإهانة، فصار المؤمن مخبرًا بأن لقاءه لله لقاء محبوب، والكافر مخبرًا بأن لقاءه لله مكروه، فصار المؤمن يحب لقاء الله، وصار الكافر يكره لقاء الله، فأحب الله لقاء هذا، وكره لقاء هذا ‏{‏‏جَزَاء وِفَاقًا‏}‏‏ ‏[‏النبأ‏:‏26‏]‏‏.

‏‏ فإن الجزاء بذلك من جنس العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم‏ ‏"‏الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا ترحموا، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء‏"‏‏، وكما قال صلى الله عليه وسلم "من نَفَّس عن مؤمن كُرْبَة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عَوْن العبد ما كان العبد في عون أخيه‏"‏‏‏.‏

وفي الحديث الصحيح الإلهي‏ ‏"‏من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلى شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلَةً‏"‏‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏ ‏"‏من كان له لسانان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة"‏‏، وقال "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صُبَّ في أذنيه الآنُك يوم القيامة‏"‏‏ ‏[‏الآنُك‏:‏ الرصاص الأبيض، وقيل‏:‏ الأسود‏]‏، وقال "لا تزال المسألة بالرجل حتى يجيء يوم القيامة وليس في وجهه مُزْعَة لحم‏"‏‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏‏{‏‏وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏‏ ‏[‏النور‏:‏22‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏149‏]‏‏.

‏‏ ومثل هذا في الكتاب والسنة كثير، يبين فيهما أن الجزاء من جنس العمل‏.‏

وفي الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يقول الله‏:‏ من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تَقَرَّب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يَبْطِش بها، ورجله التي يمشي بها؛ فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قَبْض نفْس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مُسَاءته، ولا بُدَّ له منه"‏‏ ‏[‏العرْصة‏:‏ البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء‏.‏ انظر‏:‏ المصباح المنير، مادة‏:‏ عرص‏]‏‏.

‏ فبين سبحانه أن العبد إذا تقرب إليه بمحابه من النوافل بعد الفرائض أحبه الرب كما وصف، وهذا ما احتملته هذه الأوراق من الجواب‏.

‏‏ والحمد لله رب العالمين‏.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السادس.