فصل: ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول

السؤال: فصل: ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول

الإجابة

الإجابة: فصل:

إذا تبين هذا، تبين أن ما جاء به الرسول هو الحق، الذي يدل عليه المعقول، وأن أولى الناس بالحق أتبعهم له، وأعظمهم له موافقة وهم سلف الأمة وأئمتها الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات، ونزهوه عن مماثلة المخلوقات.

‏‏ فإن الحياة والعلم والقدرة، والسمع والبصر والكلام صفات كمال، ممكنة بالضرورة ولا نقص فيها، فإن من اتصف بهذه الصفات فهو أكمل ممن لا يتصف بها، والنقص في انتفائها لا في ثبوتها، والقابل للاتصاف بها كالحيوان، أكمل ممن لا يقبل الإنصاف بها كالجمادات.‏

وأهل الإثبات يقولون للنفاة:‏ لو لم يتصف بهذه الصفات لاتصف بأضدادها من الجهل والبَكَم، والعَمَى والصَّمَم.‏

فقال لهم النفاة:‏ هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، والمتقابلان تقابل العدم والملكة إنما يلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر، إذا كان المحل قابلاً لهما، كالحيوان الذي لا يخلو إما أن يكون أعمى وإما أن يكون بصيراً؛ لأنه قابل لهما، بخلاف الجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا.‏

فيقول لهم أهل الإثبات:‏ هذا باطل من وجوه:‏

أحدها:‏ أن يقال:‏ الموجودات نوعان:‏ نوع يقبل الاتصاف بالكمال كالحي، ونوع لا يقبله كالجماد، ومعلوم أن القابل للاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبل ذلك.‏

وحينئذ، فالرب إن لم يقبل الاتصاف بصفات الكمال لزم انتفاء اتصافه بها، وأن يكون القابل لها وهو الحيوان الأعمى الأصم الذي لا يقبل السمع والبصر أكمل منه، فإن القابل للسمع والبصر في حال عدم ذلك أكمل ممن لا يقبل ذلك.‏

فكيف المتصف بها؟‏!‏ فلزم من ذلك أن يكون مسلوباً لصفات الكمال على قولهم ممتنعاً عليه صفات الكمال.

‏ فأنتم فررتم من تشبيهه بالأحياء فشبهتموه بالجمادات، وزعمتم أنكم تنزهونه عن النقائص فوصفتموه بما هو أعظم النقص.‏

الوجه الثاني:‏ أن يقال:‏ هذا التفريق بين السلب والإيجاب، وبين العدم والملكة، أمر اصطلاحي، وإلا فكل ما ليس بحي فإنه يسمى ميتاً، كما قال تعالى:‏‏{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏‏ ‏[‏النحل:‏ 20-21‏]‏.‏

الوجه الثالث:‏ أن يقال:‏ نفس سلب هذه الصفات نقص، وإن لم يقدر هناك ضد ثبوتي، فنحن نعلم بالضرورة أن ما يكون حياً عليماً قديراً، متكلماً سميعاً بصيراً، أكمل ممن لا يكون كذلك، وإن ذلك لا يقال:‏ سميع ولا أصم كالجماد، وإذا كان مجرد إثبات هذه الصفات من الكمال، ومجرد سلبها من النقص، وجب ثبوتها لله تعالى لأنه كمال ممكن للموجود ولا نقص فيه بحال، بل النقص في عدمه.‏

وكذلك إذا قدرنا موصوفين بهذه الصفات؛ أحدهما:‏ يقدر على التصرف بنفسه، فيأتي ويجيء، وينزل ويصعد، ونحو ذلك من أنواع الأفعال القائمة به والآخر يمتنع ذلك منه، فلا يمكن أن يصدر منه شيء من هذه الأفعال كان هذا القادر على الأفعال التي تصدر عنه، أكمل ممن يمتنع صدورها عنه.‏

وإذا قيل:‏ قيام هذه الأفعال يستلزم قيام الحوادث به، كان كما إذا قيل:‏ قيام الصفات به يستلزم قيام الأعراض به.‏

ولفظ الأعراض والحوادث لفظان مجملان، فإن أريد بذلك ما يعقله أهل اللغة من أن الأعراض والحوادث هي الأمراض والآفات، كما يقال:‏ فلان قد عرض له مرض شديد، وفلان قد أحدث حدثاً عظيماً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم ومُحْدَثَات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة‏"،، وقال "لعن الله من أحدث حدثاً أو آوى مُحْدِثاً‏"،، وقال "إذا أحدث أحدكم فلا يصلى حتى يتوضأ‏"‏‏ .‏

ويقول الفقهاء:‏ الطهارة نوعان:‏ طهارة الحدث، وطهارة الخبث.‏

ويقول أهل الكلام:‏ اختلف الناس في ‏[‏أهل الإحداث‏]‏ من أهل القِبْلَة، كالربا والسرقة وشرب الخمر.‏

ويقال:‏ فلان به عارض من الجن، وفلان حدث له مرض، فهذه من النقائص التي ينزه الله عنها.‏

وإن أريد بالأعراض والحوادث اصطلاح خاص، فإنما أحدث ذلك الاصطلاح من أحدثه من أهل الكلام، وليست هذه لغة العرب، ولا لغة أحد من الأمم، لا لغة القرآن ولا غيره، ولا العرف العام، ولا اصطلاح أكثر الخائضين في العلم، بل مبتدعو هذا الاصطلاح هم من أهل البدع المحدثين في الأمة، الداخلين في ذم النبي صلى الله عليه وسلم وبكل حال، فمجرد هذا الاصطلاح، وتسمية هذه أعراضاً وحوادث، لا يخرجها عن أنها من الكمال الذي يكون المتصف به أكمل ممن لا يمكنه الاتصاف بها، أو يمكنه ذلك ولا يتصف به.‏

وأيضاً، فإذا قدر اثنان؛ أحدهما:‏ موصوف بصفات الكمال التي هي أعراض وحوادث علي اصطلاحهم، كالعلم والقدرة، والفعل والبطش، والآخر:‏ يمتنع أن يتصف بهذه الصفات التي هي أعراض وحوادث كان الأول أكمل، كما أن الحي المتصف بهذه الصفات أكمل من الجمادات.‏

وكذلك إذا قدر اثنان؛ أحدهما:‏ يحب نعوت الكمال ويفرح بها ويرضاها، والآخر:‏ لا فرق عنده بين صفات الكمال وصفات النقص، فلا يحب لا هذا ولا هذا، ولا يرضى لا هذا ولا هذا، ولا يفرح لا بهذا ولا بهذا كان الأول أكمل من الثاني.‏

ومعلوم أن الله تبارك وتعالى يحب المحسنين، والمتقين والصابرين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذه كلها صفات كمال.‏

وكذلك إذا قدر اثنان؛ أحدهما:‏ يبغض المتصف بضد الكمال، كالظلم والجهل والكذب، ويغضب على من يفعل ذلك، والآخر:‏ لا فرق عنده بين الجاهل الكاذب الظالم وبين العالم الصادق العادل، لا يبغض لا هذا ولا هذا، ولا يغضب لا على هذا ولا على هذا كان الأول أكمل.‏

وكذلك إذا قدر اثنان، أحدهما:‏ يقدر أن يفعل بيديه، ويقبل بوجهه، والآخر:‏ لا يمكنه ذلك؛ إما لامتناع أن يكون له وجه ويدان، وإما لامتناع الفعل والإقبال عليه باليدين والوجه كان الأول أكمل.‏

فالوجه واليدان لا يعدان من صفات النقص في شيء مما يوصف بذلك، ووجه كل شيء بحسب ما يضاف إليه، وهو ممدوح به لا مذموم، كوجه النهار ووجه الثوب، ووجه القوم، ووجه الخيل، ووجه الرأي، وغير ذلك، وليس الوجه المضاف إلى غيره هو نفس المضاف إليه في شيء من موارد الاستعمال، سواء قدر الاستعمال حقيقة أو مجازاً.‏

فإن قيل:‏ من يمكنه الفعل بكلامه أو بقدرته بدون يديه، أكمل ممن يفعل بيديه، قيل:‏ من يمكنه الفعل بقدرته أو تكليمه إذا شاء، وبيديه إذا شاء، هو أكمل ممن لا يمكنه الفعل إلا بقدرته أو تكليمه، و لا يمكنه أن يفعل باليد.‏

ولهذا كان الإنسان أكمل من الجمادات التي تفعل بقوى فيها، كالنار والماء، فإذا قدر اثنان، أحدهما:‏ لا يمكنه الفعل إلا بقوة فيه، و الآخر:‏ يمكنه الفعل بقوة فيه وبكلامه، فهذا أكمل.‏

فإذا قدر آخر يفعل بقوة فيه وبكلامه وبيديه إذا شاء، فهو أكمل وأكمل‏!‏‏!‏

وأما صفات النقص فمثل النوم، فإن الحي اليقظان أكمل من النائم والوَسْنَان ‏[‏هو الذي يكثر نعاسه.‏ انظر:‏ القاموس، مادة:‏ وسن‏]‏.‏

والله لا تأخذه سنة ولا نوم، وكذلك من يحفظ الشيء بلا اكتراث، أكمل ممن يكرثه ذلك، والله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يؤوده حفظهما.‏

وكذلك من يفعل ولا يتعب أكمل ممن يتعب، والله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مَسَّه من لُغُوب ‏[‏أي:‏ تَعب وإعياء.‏ انظر :‏ مختار الصحاح، مادة:‏لغب‏]‏.‏

ولهذا وصف الرب بالعلم دون الجهل، والقدرة دون العجز، والحياة دون الموت، والسمع والبصر والكلام دون الصَّمَم والعَمَى والبَكمَ، والضحك دون البكاء، والفرح دون الحزن.‏

وأما الغضب مع الرضا والبغض مع الحب، فهو أكمل ممن لا يكون منه إلا الرضا والحب، دون البغض والغضب للأمور المذمومة التي تستحق أن تذم وتبغض.‏

ولهذا كان اتصافه بأنه يُعطِي ويَمْنَع، ويَخْفِض، ويَرْفَع، ويُعِزّ، ويُذِلّ، أكمل من اتصافه بمجرد الإعطاء، والإعزاز والرفع؛ لأن الفعل الآخر حيث تقتضي الحكمة ذلك أكمل مما لا يفعل إلا أحد النوعين ويخل بالآخر في المحل المناسب له، ومن اعتبر هذا الباب وجده على قانون الصواب، والله الهادي لأولى الألباب. ‏



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السادس.