الإجابة:
الحمد لله
لقد أخذ الشيطان على نفسه عهداً أمام رب العالمين سبحانه وتعالى على
أن ينابذ آدم وذريته العداوة ، والحرص على إغوائهم وإضلالهم بشتى
السبل والحيل ، فقال الله تعالى حاكياً عن الشيطان ( قال فبعزتكَ لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم
المخلصين ) وقال تعالى ( قال فبما
أغويتني لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم ، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن
خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ، قال أخرج منها
مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ) (
الأعراف 16 - 18 ) .
فقعد الشيطان لبني آدم من خروجهم للدنيا ، فهو أول من يستقبله بعد
ولادته فيطعنه في جنبيه حقداً وحسداً فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل بني
آدم يطعن في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن
في الحجاب . رواه البخاري ( 6 / 337 الفتح ) وفي رواية ( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً
من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه ، ثم قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم
( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان
الرجيم ). رواه البخاري ( 8 / 212 الفتح ) ومسلم ( 15 /
121 النووي ) .
ولما كان التوحيد هو أساس الإسلام ، وصرحه الشامخ ، ورأس مال المسلم ،
ومن خلاله يمكن للشيطان أن ينفذ سمومه ليفسد على المسلم دينه فقد وجه
جلَّ سهامه وجنَّد جنوده لإفساد هذه العقيدة والتشكيك في التوحيد
الخالص ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق
كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته .
متفق عليه وهذا لفظ البخاري ( 6 / 337 ) ومسلم ( 2 / 514 ) .
ولقد وقع ذلك صراحة لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءوا
إليه يشكون من ذلك الشيء ( كما تشكو منه أنتَ ) فعن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : جاء ناسٌ من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم فسألوه : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن
يتكلم به ، قال : أو قد وجدتموه ؟ ، قالوا : نعم ، قال : ذاك صريح
الإيمان . رواه مسلم ( 2 / 512 ) وأبوداود ( 5 / 336 ) وفي
رواية عند مسلم ( تلك محض الإيمان ) . قال النووي رحمه الله :
فقوله صلى الله عليه وسلم (ذلك صريح
الإيمان ) ( ومحض الإيمان )
معناه : استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان ، فإن استعظام هذا وشدة
الخوف منه ومن النطق به ، فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل
الإيمان استكمالاً محققاً ، وانتفت عنه الريبة والشكوك ، وقيل إن
معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من اغوائه ، وأما الكافر فإنه
يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد
، فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان ، أو الوسوسة علامة
محض الإيمان ) أه . ( شرح النووي 2 / 512 ) .
وقال الخطابي :
قوله ( ذاك صريح الإيمان ) معناه :
أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم ،
والتصديق به ، وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان ، وذلك أنها
إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله ، فكيف يكون إيماناً صريحاً ، لأن
الإيمان : التيقن ، وإنما الإشارة إلى أن ما وجدوه من الخوف من الله
تعالى أن يعاقبهم على ما وقع في نفوسهم : هو محض الإيمان ، إذ الخوف
من الله تعالى ينافي الشك فيه . أه ( معالم السنن بحاشية مختصر سنن
أبي داود للمنذري 8 / 12 ) .
وشكى إليه الصحابة أنَّ أحدهم يجد في نفسه
- يعرِّض بالشيء - لأَن يكون حُمَمة أحب إليه من أن يتكلم به ، فقال
: الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى
الوسوسة . رواه الإمام أحمد ( 1 / 235 ) وأبو داود ( 5 / 336 )
. ومعنى ( حُمَمة ) أي رماداً ، وكل ما احترق من النار . قاله المنذري
( 8 / 12 ) .
فليستبشر المسلم بهذه البشارة العظيمة التي بشَّرَ بها النبي صلى
الله عليه وسلم أصحابه الكرام ، فما دام أنَّ المسلم يستعظم الكلام في
هذه الأمور ، بل ويستعظم مجرد التفكير فيها ، فليعلم أنها من الشيطان
، وليبتعد عنها ، وليتعوذ بالله تعالى منها ، وليحسن الظن بالله تعالى
، وليعلم بأنَّ هذا الأمر علامة على صدق إيمانه بالله ، وعليه ألا
يتمادى في وساوس الشيطان وحبائله وحيله . وللشيطان لمَّة وفتنة
يعملها في قلب المسلم ، ولمَّته إيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ،
وقنوط من الخير ، وتشكيك في أصل الإخلاص .
ولابد للمسلم أن يحصل له مثل ذلك ، لأنَّ الشيطان سيورد عليه مثل هذه
الإيرادات ، روى أبوهريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : لا يزال الناس يتساءلون حتى
يقال هذا خلق الله ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل :
آمنتُ بالله . هذا لفظ مسلم ( 2 / 513 ) .
قال ابن القيم رحمه الله :
وأرشد - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - من بُلِيَ بشيء من وسوسة
التسلسل في الفاعلين ، إذا قيل له : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق
الله ؟ أن يقرأ (هو الأول والآخر والظاهر
والباطن وهو بكل شيءٍ عليم) .
كذلك قال ابن عباس لأبي زُميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله : ما
شيء أجدُه في صدري ؟ قال : ما هو ؟ قال : قلتُ والله لا أتكلم به ،
قال : فقال لي : أشيء من شكٍ ؟ قلتُ : بلى فقال لي : ما نجا من ذلك
أحد ، حتى أنزل الله عزوجل (فإن كنتَ في
شكٍ مما أنزلنا إليكَ فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ) قال
: فقال لي : فإذا وجدتَ في نفسكَ شيئاً ، فقل : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء
عليم ) ، فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة
العقل ، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أولٍ ليس قبله شيء
كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء ، كما أن ظهوره هو العلو
الذي ليس فوقه شيء ، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء ،
ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه ، لكان ذلك هو الربًّ الخلاق ،
ولابد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق ، وغني عن غيره ، وكل شيء
فقير إليه ، قائم بنفسه ، وكل شيء قائم به ، موجود بذاته ، وكل شيء
موجود به ، قديم لا أول له ، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه ، باقٍ
بذاته ، وبقاء كل شيء به ، فهو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي
ليس بعده شيء ، و الظاهر الذي ليس فوقه شيئ، والباطن الذي ليس دونه
شيء . أه ( زاد المعاد 2 / 461 ) .
وأثر ابن عباس المتقدم رواه أبو داود ( 5 / 335 ) وسنده حسن كما قاله
الأرناؤوط .
ومن حيل الشيطان وألاعيبه أنه يزين لبعض الناس حب الفضول والسؤال عن
مثل هذه الأمور العظيمة ويهونها عليهم فيسألون مثل هذه الأسئلة
القبيحة ، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال ( لا يزال الناس يسألونكم عن العلم ، حتى يقولوا :
هذا الله خلقنا ، فمن خلق الله ) وفي رواية أخرى (ليسألنكم الناس عن كل شيء حتى يقولوا : الله خلق
كل شيء ، فمن خلقه ؟ ) رواهما مسلم في صحيحه ( 2 / 514 ) .
بل قد حصل هذا من بعض الجهلة في عهد الصحابة الكرام ، فعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يزالون يسألونك يا أباهريرة حتى يقولوا : هذا
الله فمن خلق الله ؟ قال : فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناسٌ من
الأعراب فقالوا : يا أبا هريرة هذا الله ، فمن خلق الله ؟ قال : فأخذ
حصى بكفه فرماهم ، ثم قال : قوموا قوموا صدق خليلي .
رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 2 / 515 ) .
لذا فالواجب على المسلم ألا يسأل عن هذا الأمر وألا يسمح للوساوس أن
تمكن منه ، ولو خطرت على بال المسلم ، وأن يحاول طردها بالاستعاذة
بالله تعالى من الشيطان الرجيم ، والله تعالى يقول (وإما ينزغنكَ من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه
هو السميع العليم ) وأن يقول كما أرشده النبي صلى الله عليه
وسلم .
إذاً فالواجب على المسلم حال الوسواس أن يفعل الآتي :
1 - أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
2 - أن ينتهي ويقلع عن الاستمرار والتمادي في التفكير في هذا الأمر
، بأن يشغل نفسه بأي شيء آخر .
3 - أن يقول : آمنت بالله .
4 - ألا يسأل أسئلة صريحة عن هذه الوساوس التي تدور بخاطره .
5 - أن يقرأ : ( هو الأول والآخر والظاهر
والباطن وهو بكل شيء عليم ) .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم منه ، فلا يتركه إلا ويوسوس له في شأنه كله ، فقال صلى الله عليه
وسلم (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم ) رواه البخاري ( 13 / 23 ) ومسلم ( 16 / 170 ) .
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم ( إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم )
رواه البخاري ( 3 / 283 ) ومسلم ( 7 / 101 ) .
ولهذا فتجده أحرص ما يكون وأشده إذا وقف العبد بين يدي الله تعالى في
الصلاة يناجيه فيوسوس له ويشغله عن صلاته حتى لا يدري ما يصلي ، ولقد
اشتكى بعض الصحابة الكرام من ذلك ، فعن أبي العلاء أن عثمان بن أبي
العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الشيطان قد حال بيني
وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ذاك شيطان يقال خنزب فإذا أحستته فتعوذ
بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً ، قال : ففعلتُ فأذهب الله
عني . رواه مسلم وغيره ( مسلم 14 / 190 ) . ولهذا فلا تحزن ولا
تقلق ولا تلقِ بالاً لما يوسوس به الشيطان لك من الأباطيل والأوهام
التي تحزنكَ وتقلق راحتك ، وهذا كله من تلبيس الشيطان على المؤمنين
ليحزنهم وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله كما قال تعالى ( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس
بضارهم شيئاً إلا بإذن الله ) ، فإذا جاءك الشيطان موسوساً لكَ
بأنك لستَ مسلماً أو أنكَ من أصحاب الجحيم أو أنكَ سوف تدخل النار لا
محالة ، فتعوذ بالله تعالى منه ومن شرِّه ومن كيده ووسوسته ولمزه
وهمزه ، وتذكر بأن الأمر كله بيد الله تعالى وحده فهو الملك الحكم
الرحمن الرحيم ، وأن الجنة والنار بيد الله وحده ، وأنه لا يظلم أحداً
شيئاً مثقال ذرة ، وأحسن الظن بالله تعالى إحساناً بالغاً فهو عند حسن
ظن عبده به ، فإن ظنَّ العبد به خيراً كان خيراً له ، وإن ظنَّ به غير
ذلك فهو كما يظن ، وإن جاءك الوسواس بذلك فكذبه وقل له : بل أنا مسلم
وسأدخل الجنة إن شاء الله تعالى تحقيقاً ، ولا عليكَ مما قد يزيده
الشيطان لك من الوسواس ، فأبعد عنه ، وجالس بعض الصالحين الذين
يعينونك على الطاعة .
وإياك والعزلة والانطواء والابتعاد عن الناس ، سيما الصالحين منهم ،
فإنهم خير معين - بعد الله - وخير من يذكر إذا نسي العبد ، ويعين إذا
ذكر .
والله تعالى اعلم .