سئل عمن قال: اختلاف المسلمين في كلام الله على ثلاثة أنحاء

السؤال: سئل عمن قال: اختلاف المسلمين في كلام الله على ثلاثة أنحاء

الإجابة

الإجابة: وسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عمن قال‏:‏ اختلاف المسلمين في كلام الله على ثلاثة أنحاء‏:‏ فقوم إلى أنه قديم الحرف والصوت وهم الحشوية، وقوم إلى أنه حادث بالصوت والحرف وهم الجهمية ومن تابعهم، وقوم إلى أنه قديم لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله وهم الأشعرية‏؟‏ ‏

‏‏ فأجاب رضي الله عنه وأرضاه‏:‏ ‏

‏‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏

‏‏ ‏ قول القائل‏:‏ ‏[‏إن اختلاف المسلمين في كلام الله على ثلاثة أنحاء‏]‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ هو كلام بحسب ما بلغه من ذلك، وأكثر من تكلم في هذه المسألة من المتأخرين إنما يذكر فيها بعض اختلاف الناس، فقوم يحكون أربعة أقوال، كأبي المعالي ونحوه‏.‏

‏‏ ‏ وقوم يحكون خمسة أو ستة، كالشهرستاني ونحوه‏.‏

‏‏ ‏ والأقوال التي قالها المنتسبون إلى القبلة في هذه المسألة تبلغ سبعة أو أكثر‏.‏‏

‏‏ الأول‏:‏ قول المتفلسفة ومن وافقهم من متصوف، ومتكلم، كابن سينا وابن عربي الطائي، وابن سبعين، وأمثالهم ممن يقول بقول الصابئة، الذين يقولون‏:‏ إن كلام الله ليس له وجود خارج عن نفوس العباد، بل هو ما يفيض على النفوس من المعاني؛ إعلاما وطلبا؛ إما من العقل الفعال كما يقوله كثير من المتفلسفة، وإما مطلقاً كما يقوله بعض متصوفة الفلاسفة، وهذا قول الصابئة ونحوهم، وهؤلاء يقولون‏:‏ الكلام الذي سمعه موسى لم يكن موجوداً إلا في نفسه، وصاحب ‏[‏مشكاة الأنوار‏]‏ وأمثاله في كلامه ما يضاهي كلام هؤلاء أحياناً، وإن كان أحياناً يكفرهم، وهذا القول أبعد عن الإسلام ممن يقول‏:‏ القرآن مخلوق‏.‏‏

‏‏ والقول الثاني‏:‏ قول الجهمية من المعتزلة وغيرهم، الذين يقولون‏:‏ كلام الله مخلوق، يخلقه في بعض الأجسام، فمن ذلك الجسم ابتدأ، لا من الله، ولا يقوم عندهم بالله كلام ولا إرادة، وأول هؤلاء الجعد بن درهم، الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري لما خطب الناس يوم عيد النحر وقال‏:‏ ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بالجعد ابن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه‏‏.‏‏

‏‏ وهؤلاء هم الذين دعوا من دعوه من الخلفاء إلى مقالتهم، حتى امتحن الناس في القرآن بالمحنة المشهورة في إمارة المأمون، والمعتصم والواثق، حتى رفع الله شأن من ثبت فيها من أئمة السنة؛ كالإمام أحمد رحمه الله و موافقيه، وكشفها الله عن الناس في إمارة المتوكل وظهر في الأمة ‏[‏مقالة السلف‏]‏‏:‏ أن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، أي هو المتكلم به، لم يبتدأ من بعض المخلوقات كما قالت الجهمية بل هو منه نزل، كما قال تعالى‏:‏‏ ‏ {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏ } ‏[‏الأحقاف‏:‏2‏]‏، وقال‏:‏‏{ ‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، وقال‏:‏‏{‏ حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏} ‏[‏فصلت‏:‏1- 2‏]‏ وقوله‏:‏‏‏ {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ‏} ‏[‏النحل‏:‏102‏]‏‏.‏

‏‏ ‏ ثم لما شاعت المحنة كثر اضطراب الناس وتنازعهم في ذلك، حتى صار أهل السنة والجماعة المتفقون على أن كلام الله منزل غير مخلوق يقول كل منهم قولا يخالف به صاحبه، وقد لا يشعر أحدهم بخلاف الأدلة، وصار أتباع الأئمة الأربعة كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، مع كون الظاهر المشهور عندهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق بين كل طائفة منهم تنازع في تحقيق ذلك، كما سننبه على ذلك‏.‏

‏‏ ‏ والقول الثالث‏:‏ قول أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري ومن اتبعه؛ كالقلانسي وأبي الحسن الأشعري وغيرهم، أن كلام الله معنى قائم بذات الله، هو الأمر بكل مأمور أمر الله به، والخبر عن كل مخبر أخبر الله عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا‏.‏

‏‏ ‏ والأمر والنهي والخبر ليست أنواعا له ينقسم الكلام إليها، وإنما كلها صفات له إضافية، كما يوصف الشخص الواحد بأنه ابن لزيد وعم لعمرو، وخال لبكر‏.‏

‏‏ ‏ والقائلون بهذا القول منهم من يقول‏:‏ إنه معنى واحد في الأزل، وأنه في الأزل أمر ونهي وخبر، كما يقوله الأشعري‏.‏ ‏

‏‏ ومنهم من قال‏:‏ بل يصير أمراً ونهياً عند وجود المأمور والمنهي‏.‏

‏‏ ‏ ومنهم من يقول‏:‏ هو عدة معان، الأمر والنهي، والخبر، والاستخبار‏.‏

‏‏ ‏ وقد ألزم الناس أصحاب هذا القول أن يجعلوا العلم والقدرة والإرادة والحياة شيئاً واحداً، فاعترف محققوهم بصحة الإلزام‏.‏

‏‏ ‏ وجمهور العقلاء من أهل السنة وأهل البدعة يقولون‏:‏ إن فساد هذا القول معلوم بالضرورة، كما يقولون‏:‏ إن فساد قول من يقول‏:‏ إن الأصوات المسموعة من العباد قديمة معلوم بالضرورة كما يقولون إن فساد قول من يقول‏:‏ إن المتكلم يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره، وأن العالم يكون عالماً بعلم يقوم بغيره، والقادر يكون قادراً بقدرة تقوم بغيره، معلوم بالضرورة‏.‏

‏‏ ‏ وكما يقول جمهور العقلاء‏:‏ إن فساد قول من يقول‏:‏ إن العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، وأن العلم هو العالم، والقدرة هي القادر، معلوم بالضرورة‏.‏

‏‏ ‏ القول الرابع‏:‏ قول طوائف من أهل الكلام والحديث من السالمية وغيرهم يقولون‏:‏ إن كلام الله حروف وأصوات قديمة أزلية، ولها مع ذلك معان تقوم بذات المتكلم، وهؤلاء يوافقون الأشعرية والكلابية في أن تكليم الله لعباده ليس إلا مجرد خلق إدراك للمتكلم، ليس هو أمراً منفصلا عن المستمع‏.‏

‏‏ ‏ ثم إن جمهور هؤلاء لا يقولون‏:‏ إن تلك الأصوات هي المسموعة من القارئين، بل يفرقون بين هذا وهذا‏.‏

‏‏ ‏ ومنهم طائفة وهم أهل ‏.‏‏.‏‏.‏ يقولون‏:‏ إن الصوت القديم يسمع من القارئ‏.‏

‏‏ ‏ثم قد يقولون تارة‏:‏إن القديم نفس الصوت المسموع من القارئ، وتارة يقولون‏:‏ إنه يسمع من القارئ صوتين، قديماً ومحدثاً‏.‏

‏‏ ‏ وكثير منهم أو أكثرهم لا يقولون بحلول القديم في المحدث، بل يقولون‏:‏ ظهر فيه كما يظهر الوجه في المرآة‏.‏

‏‏ ‏ ومنهم من يقول بحلول القديم في المحدث، وليس هذا القول ولا الأقوال قبله قول أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، ولم يقل ذلك لا الإمام أحمد، ولا أئمة أصحابه، ولا غيره من الأئمة، بل هم متفقون على الإنكار على من قال‏:‏ إن لفظي بالقرآن غير مخلوق، فكيف بمن قال‏:‏ صوتي غير مخلوق‏؟‏ فكيف بمن قال‏:‏ صوتي قديم‏؟‏‏!‏ وأما القول بأن المداد الذي في المصحف قديم، فهذا ما رأيناه في كتاب أحد من طوائف الإسلام، ولا نقله أحد عن رجل معروف من العلماء أنه سمعه منه، ولكن طائفة يسكتون عن التكلم في المداد بنفي أو إثبات، ويقولون‏:‏ لا نقول‏:‏ إنه قديم، ولكن نسكت سداً للذريعة‏‏.‏

‏ وقد حكاه طائفة عمن سموهم الحشوية القول بقدم المداد، وقالوا‏:‏ إنهم يقولون‏:‏ إن المداد الذي في المصحف قديم، وأنه لما كان في المحبرة كان محدثا، فلما صار في الورق صار قديما‏.‏ ‏‏

ورأينا طوائف يكذبون هؤلاء في النقل، وكأن حقيقة الأمر أن أولئك يقولون قول غيرهم بمجرد ما بلغهم من إطلاق قولهم، أو لما ظنوه لازما لهم، أو لما سمعوه ممن يجازف في النقل ولا يحرره، وربما سمعوه من بعض عوامهم إن كان ذلك قد وقع‏‏.‏

وهذا الباب وقع فيه غلط بهذا السبب، حتى غلط الناس على من يعظمونه؛ وبهذا السبب غلط أبا طالب الإمام أحمد فيما نقله عنه، فإنه قرأ عليه‏:‏‏‏ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ‏[‏الإخلاص‏:‏1‏]‏ وسأله‏:‏ هذا مخلوق‏؟‏ فقال له أحمد‏:‏ هذا ليس بمخلوق‏.‏

‏ فبلغه أن أبا طالب حكى عنه أنه قال‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق، فغضب عليه أحمد، وقال‏:‏ أنا قلت لك‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق‏؟‏ فقال‏:‏ لا ‏‏.‏

‏ ولكن قرأت عليك‏:‏‏{ ‏ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏} فقلت لك‏:‏ هذا غير مخلوق، فقلت‏:‏ نعم ‏‏.‏

‏ فقال‏:‏ فلم حكيت عني أني قلتُ لك‏:‏ لفظي بالقرآن غير مخلوق‏؟‏ فقال‏:‏ لم أحكه عنك، وإنما حكيته عن نفسي، قال‏:‏ فلا تقل هذا، فإني لم أسمع عالماً يقول هذا، ولكن قل‏:‏ القرآن حيث تصرف كلام الله غير مخلوق‏‏.‏

ولهذا قال البخاري في ‏[‏كتاب خلق الأفعال‏]‏‏:‏ إن ‏[‏اللفظية‏]‏ هؤلاء يذكرون قولهم عن أحمد وهم لا يفهمون دقة قوله، وموضع الشبهة أنه إذا قال هذا، فالإشارة تكون إلى الكلام من حيث هو كلام، مع قطع النظر عما بلغ به من حركات العبد وصوته، كما أن الرجل إذا كتب اسم الله تبارك وتعالى وسمع قائلا يذكر الله فقال‏:‏هذا ربي كان صادقاً، ولو قيل له‏:‏ أتعبد هذا‏؟‏ لقال‏:‏ نعم‏‏.‏

‏ لأن المشار إليه هو المسمى بذلك ألا تعلم المكتوب‏؟‏ والاسم يراد به من الكلام المؤلف المسمى، فإذا قال‏:‏‏‏ {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ‏} ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏ فالمراد أن المسمى الذي اسمه محمد هو رسول الله، ليس المراد أن نفس اللفظ والخط هو رسول الله‏‏.‏

‏ ومن هنا تنازع الناس في ‏[‏الاسم‏]‏، هل هو المسمى أو غيره، وكان الصواب أن يمنع من كلا الإطلاقين، ويقال كما قال الله تعالى‏:‏‏‏ {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى‏ } ‏[‏الأعراف‏:‏180‏]‏ وكما قال صلى الله عليه وسلم" إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة‏"‏‏‏‏.‏

‏ والذين أطلقوا أنه المسمى كان أصل مقصودهم أن المراد به هو المسمى، وأنه إذا ذكر الاسم فالإشارة به إلى مسماه، وإذا قال العبد‏:‏ حمدت الله، ودعوت الله، وعبدت الله، فهو لا يريد إلا أنه عبد المسمى بهذا الاسم‏‏.‏

والذين نفوا ذلك رأوا أن نفس اللفظ أو الخط ليس هو الأعيان المسماة بذلك، وآخرون فرقوا بين التسمية والاسم، فجعلوا الألفاظ هي التسمية، وجعلوا الاسم هو الأعيان المسماة بالألفاظ، فخرجوا عن موجب اللغة المعروفة التي جاء بها الكتاب والسنة‏‏.‏

‏ وأصل مقصود الطوائف كلها صحيح، إلا من توسل منهم بقوله إلى قول باطل؛ مثل قول الجهمية‏:‏ إن الاسم غير المسمى؛فإنهم توسلوا بذلك إلى أن يقولوا‏:‏ أسماء الله غيره‏‏.‏

‏ ‏ ثم قالوا‏:‏ وما كان غير الله فهو مخلوق بائن عنه، فلا يكون الله تعالى سمى نفسه باسم، ولا تكلم باسم من أسمائه، ولا يكون له كلام تكلم به، بل لا يكون كلامه إلا ما كان مخلوقاً بائناً عنه‏‏.‏

‏ فهؤلاء لما علم السلف أن مقصودهم باطل أنكروا إطلاقهم القول بأن كلام الله غير الله، وأن علم الله غير الله وأمثال ذلك؛ لأن لفظ ‏[‏الغير‏]‏ مجمل، يحتمل الشيء البائن عن غيره، ويحتمل الشيء الذي ليس هو إياه ولا هو بائن عنه‏‏.‏

فمن قال‏:‏ إنه غيره ليجعله بائناً عنه، كان كلا المعنيين صحيحاً، وإن كان في العبارة تقصير‏‏.‏

‏ وهكذا أنكر الأئمة قول من قال‏:‏ لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق‏‏.‏

‏ وقالوا‏:‏ من قال‏:‏ هو مخلوق، فهو جهمي، ومن قال‏:‏ غير مخلوق فهو مبتدع‏‏.‏

‏ وكذلك قالوا في ‏[‏التلاوة، والقراءة‏]‏؛ لأن اللفظ والتلاوة والقراءة يراد بهما المصدر الذي هو فعل العبد، وأفعال العباد مخلوقة، فمن جعل شيئاً من أفعالهم وأصواتهم وغير ذلك من صفاتهم غير مخلوق فهو مبتدع، ويراد ب ‏[‏اللفظ‏]‏ نفس الملفوظ، كما يراد بالتلاوة والقراءة نفس الكلام، وهو القرآن نفسه‏‏.‏

ومن قال‏:‏ كلام الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم وقرأه المسلمون مخلوق فهو جهمي‏.‏

‏ ومن المعلوم أنه إذا سمع الناس كلامَ مُحَدِّثٍ يُحدِّث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى‏"‏ قالوا‏:‏ هذا كلام النبى صلى الله عليه وسلم ، أو هذا كلامه بعينه؛ لأنهم قد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك الكلام، لفظه ومعناه، وتكلم بصوته، ثم المبلغ له عنه بلغه بصوت نفسه، فالكلام كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، هو الذي تكلم بمعانيه وألف حروفه بصوته، والمبلغ له بلغه بفعل نفسه وصوت نفسه‏.‏ ‏‏

فإذا قالوا‏:‏ هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، كانت إشارتهم إلى نفس الكلام الذي هو الكلام حروفه ونظمه ومعانيه، لا إلى ما اختص به المبلغ من حركاته وأصواته؛ بل يضيفون الصوت إلى المبلغ فيقولون‏:‏ صوت حسن، وما كان في الكلام من فصاحة حروفه ونظمه وبلاغة معانيه فإنما يضاف إلى المتكلم به ابتداء، لا إلى المبلغ له؛ ولكن يضاف إلى المبلغ حسن الأداء؛ كتجويد الحروف، وتحسين الصوت؛ ولهذا قال تعالى‏:‏‏‏{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏‏} ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏‏‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس، فيقول" ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي‏؟‏‏"‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "زينوا القرآن بأصواتكم‏"‏، وقال" الله أشد أذناً إلى الرجل يحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَة إلى قينته‏" ‏ و‏‏[‏أذناً‏]‏‏:‏ أي استماعا‏]‏‏‏.‏

فبين الله ورسوله أن القرآن المسموع كلام الله لا كلام أحد من المخلوقين، والناس يقرؤونه بأصواتهم، فمن قال‏:‏ إن هذا القرآن المسموع ليس هو كلام الله، أو هو كلام القارئين كان فساد قوله معلوماً بالضرورة شرعاً وعقلاً، كما أن من قال‏:‏ إن هذا الصوت المسموع ليس هو صوت العبد أو هو صوت الله، كان فساد قوله معلوماً بالضرورة شرعاً وعقلا، بل هذا هو كلام الله لا كلام غيره، سمعه جبريل من الله، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، وسمعه المسلمون من نبيهم، ثم بلغه بعضهم إلى بعض، وليس لأحد من الوسائط فيه إلا التبليغ بأفعاله وصوته، لم يحدث منهم أحد شيئاً من حروفه، ولا نظمه، ولا معانيه، بل جميع ذلك كلام الله تعالى‏.‏

‏ القول الخامس‏:‏ قول الهشامية والكرامية ومن وافقهم‏:‏ أن كلام الله حادث قائم بذات الله بعد أن لم يكن متكلماً بكلام، بل ما زال عندهم قادراً على الكلام، وهو عندهم لم يزل متكلماً؛ بمعنى أنه لم يزل قادراً على الكلام، وإلا فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع، كوجود الأفعال عندهم، وعند من وافقهم من أهل الكلام، كالمعتزلة وأتباعهم وهم يقولون‏:‏ إنه حروف وأصوات حادثة بذات الرب، بقدرته ومشيئته‏‏.‏

ولا يقولون‏:‏ إن الأصوات المسموعة، والمداد الذي في المصحف قديم، بل يقولون‏:‏ إن ذلك محدث‏.‏

القول السادس‏:‏ قول الجمهور وأهل الحديث وأئمتهم‏:‏ إن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، وأنه يتكلم بصوت، كما جاءت به الآثار، والقرآن وغيره من الكتب الإلهية‏.‏

كلام الله تكلم الله به بمشيئته وقدرته، ليس ببائن عنه مخلوقاً‏.‏ ولا يقولون‏:‏ إنه صار متكلماً بعد أن لم يكن متكلماً، ولا أن كلام الله تعالى من حيث هو هو حادث، بل ما زال متكلماً إذا شاء، وإن كان كلم موسى وناداه بمشيئته وقدرته، فكلامه لا ينفد، كما قال تعالى‏:‏‏‏{ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} ‏‏ ‏[‏الكهف‏:‏109‏]‏.‏

‏ ويقولون‏:‏ ما جاءت به النصوص النبوية الصحيحة، ودلت عليه العقول الزكية الصريحة، فلا ينفون عن الله تعالى صفات الكمال سبحانه وتعالى فيجعلونه كالجمادات التي لا تتكلم، ولا تسمع ولا تبصر، فلا تكلم عابديها، ولا تهديهم سبيلا، ولا ترجع إليهم قولاً ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً‏‏.‏

ومن جعل كلام الله لا يقوم إلا بغير الله كان المتصف به هو ذلك الغير، فتكون الشجرة هي القائلة لموسى‏:{‏‏‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} ‏‏[‏طه‏:‏14‏]‏؛ ولهذا اشتد نكير السلف على من قال ذلك، وقالوا‏:‏ هذا نظير قول فرعون‏:‏‏{ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏} [‏النازعات‏:‏24‏]‏ أي‏:‏ هذا كلام قائم بغير الله؛ ولهذا صرح بحقيقة ذلك الاتحادية كابن عربي ونحوه الذين يقولون‏:‏ ‏‏

وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه وأهل هذا القول لموافقون للسلف والأئمة لا يقولون‏:‏ إن الرب كان مسلوبا صفات الكمال في الأزل، وأنه كان عاجزاً عن الكلام حتى حدث له قدرة عليه، كالطفل‏.‏

‏ والذين يقولون‏:‏ إن القرآن مخلوق يجعلون الكلام لغيره، فيسلبونه صفات الكمال، ويقولون‏:‏ إنه لا يقدر على الكلام في الأزل، لا على كلام مخلوق ولا غيره‏‏.‏

‏ وهم إن لم يصرحوا بالعجز عن الكلام في الأزل فهو لازم لقولهم‏‏.‏

‏ والكرامية فروا من الأول، وجعلوه متكلما بكلام يقوم به، لكن لم يجعلوه متكلما في الأزل، بل ولا قادراً على الكلام في الحقيقة في الأزل‏‏.‏

والكلابية ومن وافقهم من السالمية ونحوهم وصفوه بالكلام في الأزل،وقالوا‏:‏ إنه موصوف به أزلا وأبداً،لكن لم يجعلوه قادراً على الكلام،ولا متكلما بمشيئته واختياره، ولا يقدر أن يحدث شيئاً يكون به مكلما لغيره، لكن يخلق لغيره إدراكاً بما لم يزل،كما يزيل العمى عن الأعمى الذي لا يرى الشمس التي كانت ظاهرة متجلية،لا أن الشمس في نفسها تجلت وظهرت،وهذا يقوله كثير من هؤلاء في رؤيته‏:‏إنها ليست إلا مجرد خلق الإدراك،ليس هناك حجب منفصلة عن الرأي،فلا يكشف حجابا،ولا يرفع حجاباً‏‏.‏

‏ والقرآن مع الحديث ومع العقل يرد على هؤلاء؛ كقوله تعالى‏:‏‏{ ‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ‏‏} ‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏ ولو كان الحجاب هو عدم الرؤية لكان الوحي وإرسال الرسل من وراء حجاب، وقال تعالى‏:‏‏{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً‏‏} [‏الأعراف‏:‏143‏]‏، وفي الصحيح" إذا دخل أهل الجنة الجنةَ نادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن يُنجِزكموه، فيقولون‏:‏ ما هو‏؟‏ ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، وينجينا من النار‏؟‏‏‏‏.‏ قال‏:‏ ‏‏فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر" ‏‏ والآثار في ذلك كثيرة‏.

‏ وأيضا، فقول الكلابية‏:‏ إن الحقائق المتنوعة شيء واحد، وقول الآخرين‏:‏ إن الأصوات المتضادة تجتمع في آن واحد، مما يقول أكثر العلماء العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة، وقد بسط الكلام على هذه الأقوال في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود هنا الجواب عن قول هذا القائل‏:‏ فقوم إلى أنه قديم الصوت والحرف، وهم الحشوية، إن أراد بذلك قول من يقول‏:‏ إن نفس الأصوات مجتمعة في الأزل، فهذا قول من تقدم من السالمية، وغيرهم من أهل الكلام والحديث‏.

‏‏ وأما قول القائل‏:‏ ‏[‏حشوية‏]‏، فهذا اللفظ ليس له مسمى معروف لا في الشرع، ولا في اللغة، ولا في العرف العام، ولكن يذكر أن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد‏.‏ وقال‏:‏ كان عبد الله بن عمر حشويا، وأصل ذلك‏:‏ أن كل طائفة قالت قولا تخالف به الجمهور والعامة ينسب إلى أنه قول الحشوية، أي الذين هم حشو في الناس ليسوا من المتأهلين عندهم، فالمعتزلة تسمى من أثبت القدر حشوياً، والجهمية يسمون مثبتة الصفات حشوية، والقرامطة كأتباع الحاكم يسمون من أوجب الصلاة والزكاة والصيام والحج حشويا‏.

‏‏ ‏ وهذا كما أن الرافضة يسمون قول أهل السنة والجماعة قول الجمهور، وكذلك الفلاسفة تسمى ذلك قول الجمهور، فقول الجمهور وقول العامة من جنس واحد‏.

‏‏ ‏ فإن كان قائل ذلك يعتقد أن الخاصة لا تقوله، وإنما تقوله العامة والجمهور، فأضافه إليهم وسماهم حشوية، والطائفة تضاف تارة إلى الرجل الذي هو رأس مقالتها، كما يقال‏:‏ الجهمية، والأباضية، والأزارقة، والكلابية، والأشعرية، والكرامية، ويقال في أئمة المذاهب‏:‏ مالكية، وحنفية، وشافعية، وحنبلية، وتارة تضاف إلى قولها وعملها، كما يقال‏:‏ الروافض، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، ونحو ذلك، ولفظة الحشوية لا ينبني لا عن هذا ولا عن هذا‏.

‏‏ ‏ وأما قوله‏:‏ ‏[‏وقوم ذهبوا إلى أنه حادث بالصوت والحرف وهم الجهمية‏]‏ فهو كلام من لا يعرف مقالات الناس؛ فإن الجهمية يقولون‏:‏ إن الله لا يتكلم، وليس له كلام، وإنما خلق شيئاً فعبر عنه، ومنهم من قال‏:‏ إنه يتكلم بكلام يخلقه في غيره، وهو قول المعتزلة‏.

‏‏ ‏ وأما الكرامية فتقول‏:‏ إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو متكلم به بحرف وصوت‏.‏

‏‏ ويقولون مع ذلك‏:‏ إنه حادث قائم به، وهم ليسوا من الجهمية، بل يردون عليهم أعظم الرد، وهم أعظم مباينة لهم من الأشعرية‏‏‏.‏

‏ ‏ ويقولون مع ذلك‏:‏إن القرآن حادث في ذات الله‏.

‏‏ ‏ ثم من هؤلاء من يقول‏:‏ إن كلام الله كله حادث ومنهم من لا يقول ذلك، وهذا القول معروف عن أبي معاذ التومني، وزهير البابي، وداود بن علي الأصبهاني، بل والبخاري صاحب الصحيح وغيره، وطوائف كثيرة يذكر عنهم هذا، فليس كل من قال‏:‏ إنه حادث كان من الجهمية، ولا يقول‏:‏ إنه مخلوق‏.

‏‏ ‏ وأما قوله‏:‏ ‏[‏وقوم نحوا إلى أنه قديم لا بصوت ولا حرف، إلا معنى قائم بذات الله وهم الأشعرية‏]‏ فهذا صحيح، ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبد الله ابن كلاب؛ فإن السلف والأئمة كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات، والأفعال، المتعلقة بمشيئته وقدرته‏.‏

‏‏ والجهمية تنكر هذا وهذا، فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة، وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته‏.

‏‏ ‏ وجاء أبو الحسن الأشعري بعده وكان تلميذاً لأبى علي الجبائي المعتزلي ثم إنه رجع عن مقالة المعتزلة، وبين تناقضهم في مواضع كثيرة، وبالغ في مخالفتهم في مسائل القدر، والإيمان، والوعد والوعيد، حتى نسبوه بذلك إلى قول المرجئة، والجبرية والواقفة وسلك في الصفات طريقة ابن كلاب‏‏.‏

‏ وهذا القول في القرآن هو قول ابن كلاب في الأصل، وهو قول من اتبعه كالأشعري وغيره‏.

‏‏ ‏ وقوله‏:‏ ‏[‏فمن قال‏:‏ إن الحرف والصوت الملفوظ بهما عين الكلام القديم فلأهل الحق فيه رأيان‏:‏ رأي بتكفيره، ورأي بتبديعه‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏[‏وليعلم أن الحرف اللساني والحرف البناني كلاهما مقيد بزمام تصرفه‏]‏‏.

‏‏ ‏ فيقال‏:‏ أما القول بأن المداد المكتوب قديم فما علمنا قائلا معروفا قال به، وما رأينا ذلك في كتاب أحد من المصنفين، لامن أصحاب أبي حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي ولا أحمد، بل رأينا في كتب طائفة من المصنفين من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، إنكار القول بأن المداد قديم، وتكذيب من نقل ذلك، وفي كلام بعضهم ما يدل على أن في المصحف حرفا قديماً ليس هو المداد‏.

‏‏ ‏ ثم منهم من يقول‏:‏ هو ظاهر فيه، ليس بحال، ومنهم من يقول هو حال‏‏.‏

‏ وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن يكون ذلك هو الشكل؛ شكل الحرف وصورته، لا مادته التي هي مداده، وهذا القول أيضاً باطل، كما أن القول بأن شيئا من أصوات الآدميين قديم هو قول باطل، وهو قول قاله طائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور هؤلاء ينكرون هذا القول‏.

‏‏ ‏ وكلام الإمام أحمد وجمهور أصحابه في إنكار هذا القول كثير مشهور‏.

‏‏ ‏ ولا ريب أن من قال‏:‏ إن أصوات العباد قديمة فهو مفتر مبتدع، له حكم أمثاله، كما أن من قال‏:‏ إن هذا القرآن ليس هو كلام الله فهو مفتر مبتدع، له حكم أمثاله‏.

‏‏ ‏ ومن قال‏:‏ إن القرآن العربي ليس هو كلام الله، بل بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله فهو مفتر مبتدع، له حكم أمثاله‏‏.

ومن قال‏:‏ إن معنى آية الكرسي، وآية الدين، و‏{ ‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏ } و‏ ‏{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏ } معنى واحد فهو مفتر مبتدع، له حكم أمثاله‏.

‏‏ ‏ وأما التكفير، فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقصد الحق، فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطؤه‏.

‏‏ ‏ ومن تبين له ما جاء به الرسول، فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين، فهو كافر‏.

‏‏‏ ومن اتبع هواه، وقصر في طلب الحق، وتكلم بلا علم، فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته‏.

‏‏ ‏ فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص، فليس كل مخطئ ولا مبتدع، ولا جاهل ولا ضال، يكون كافراً، بل ولا فاسقاً، بل و لا عاصيا، لا سيما في مثل ‏[‏مسألة القرآن‏]‏، وقد غلط فيها خلق من أئمة الطوائف، المعروفين عند الناس بالعلم والدين‏.

‏ وغالبهم يقصد وجها من الحق فيتبعه، ويعزب عن وجه آخر لا يحققه، فيبقى عارفاً ببعض الحق جاهلا ببعضه، بل منكراً له‏‏.

‏ ومن هاهنا نشأ نزاعهم، فالذين قالوا‏:‏ إنه مخلوق، رأوا أن الكلام لا يكون إلا بقدرة المتكلم ومشيئته، وإن كلاماً لازماً لذات المتكلم لا يعقل؛ فإنه إن جعل معنى واحداً كان مكابرة للعقل، وكذلك إن جعل أصواتاً أزلية، ثم ظنوا أن ما كان بقدرة الرب ومشيئته لا يكون إلا منفصلا عنه، وما انفصل عنه فهو مخلوق، ولهذا أنكروا أن يجيء، أو يأتي، أو ينزل، وغير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة‏.

‏ وآخرون وافقوهم على هذا الأصل الذي أحدثه أولئك، وهو أنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، لكن رأوا أن كلاماً لا يقوم بالمتكلم لا يكون كلاماً له، فقالوا‏:‏ إن كلامه قائم به‏.

‏ ثم رأى فريق أن قدم الأصوات ممتنع، فجعلوا القديم هو المعنى،ثم رأوا أن تعدد المعاني القديمة ممتنع، وأنه يفضي إلى وجود معاني لا نهاية لها، فقالوا‏:‏ هو معنى واحد‏‏.

ورأى فريق آخر أن كون المعاني المتنوعة معنى واحداً ممتنع، وكون الرب لم يتكلم بحروف القرآن، بل خلقها في غيره موافقة لمن جعل الكلام لا يقوم بالمتكلم؛ فإن تلك الحروف المنظومة كالقرآن العربي إن قالوا‏:‏ هو كلام الله لزم ألا يكون كلامه قائماً به بل بغيره، وإن قالوا‏:‏ ليس كلاماً للّه لزم أن يكون كلاماً لمن خلقت فيه، فلا يكون الكلام العربي كلاماً لله، بل كلاماً لمن خلق فيه‏‏.‏

‏ وهذا هو الذي أنكروه على من قال‏:‏ القرآن مخلوق‏‏.

‏ والذي قال إنه مخلوق، لم يقل إلا هذا، فلزمهم أن يوافقوا في الحقيقة قول من يقول‏:‏ القرآن مخلوق، وإن ضموا إلى ذلك قولاً لا حقيقة له يخالف العقل والنقل، وهو إثبات معنى واحد يكون هو جميع معاني التوراة، والإنجيل، والقرآن، لكنهم إنما قالوا ذلك فراراً من أقوال ظنوها باطلة، فلم يقصدوا إلا الفرار عما رأوه باطلا، فوقعوا في أقوال لها لوازم تقتضي بطلانها أيضاً‏‏.

‏ فلما رأى هذا الفريق الثاني ما أجاب به هؤلاء، قالوا‏:‏ إنه حروف وأصوات، قديمة أزلية‏‏.

‏ فرد عليهم غيرهم‏‏.

وقالوا ‏:‏ إن الأصوات متضادة في نفسها، والضدان لا يجتمعان، وأقل ما في الأمور القديمة أن تكون مجتمعة، وقالوا لهم ‏:‏الأصوات مستلزمة للحركات المستلزمة للقدرة والإرادة، فلا تكون الأصوات إلا بقدرة وإرادة، وما كان كذلك لم يكن قديم العين، لكن النزاع في كونه قديم النوع‏.

‏ وقالوا‏:‏ الأصوات هي في نفسها يمتنع بقاؤها، وما امتنع بقاؤه امتنع قدمه، فامتنع قدم الأصوات‏‏.

‏ وقال آخرون ‏:‏ إذا كان الأمر كذلك كان متكلماً بحروف، وأصوات، حادثة بمشيئته وقدرته، قائمة بذاته، لكن يمتنع قدم شيء من ذلك؛ لأن الحوادث لا تكون أزلية، ورأوا أن هذا القول ينجيهم من سائر ما وقع فيه غيرهم، وليس فيه ما ينكر أولئك عليهم، إلا أن يقوم بذات الرب ما يتعلق بمشيئته وقدرته‏‏.

‏ فإن المعتزلة نفت أن يقوم به شيء من المعاني، وعبروا عن ذلك بأنه لا يقوم به شيء من الأعراض والحوادث، فسموا ما يقوم به من العلم، والقدرة، والحياة، أعراضاً‏‏‏.

‏‏ وما يقوم به من الخلق، والإحسان والإتيان، والمجيء، والنزول حوادث‏‏.

‏‏ وقالوا لسلف الأمة وأئمتها وجمهورها ‏:‏ إن قلتم‏:‏ الكلام المعين لازم له، فقد قلتم ‏:‏ إنه تقوم به الأعراض، وإن قلتم‏:‏ يتكلم باختياره وقدرته، فقد قلتم‏:‏ تقوم به الحوادث‏‏‏.

‏‏ فقال هؤلاء ‏:‏ كلام المعتزلة وقولهم‏:‏ لا تقوم به هذه الأمور، كلام باطل، مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع سلف الأمة، وهو أيضاً مخالف لصريح العقل؛ فإن إثبات عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، وحي بلا حياة، ممتنع في صريح العقل، وكذلك إثبات خالق وعادل بلا خلق ولا عدل، وإثبات فاعل لا يقوم به فعل، وإثبات رب لا يقدر على التصرف بنفسه، بل يكون بمنزلة الجماد سلب لصفات الكمال عنه، كما أن إثبات رب لا يعلم ولا يقدر سلب لصفات الكمال عنه‏‏.

‏‏ قال هؤلاء‏:‏ فإذا قلنا‏:‏ إنه تكلم بالكلام، حروفه ومعانيه، بمشيئته وقدرته، سلمنا من هذه المحاذير، ولم يكن منا محذور شرعي ولا عقلي‏‏‏.

‏‏ فقال لهم الفريق السابع‏:‏ ولكن جعلتموه عاجزاً عن الكلام في الأزل، مسلوباً للكمال، ولزمكم أن يقال‏:‏ إذا كان من الأزل إلى الأبد لم يتكلم ثم تكلم، كان ذلك أمراً حادثاً، فيحتاج إلى سبب حادث، والقول في ذلك الحادث كالقول في الأول، فيلزم تسلسل الحوادث، فإن كان ذلك ممتنعاً بطل قولكم، وإن كان جائزاً فقولوا ‏:‏ لم يزل متكلماً إذا شاء، كما قاله أئمة السنة وجماهير أهل الحديث، فإنكم حينئذ تكونون قد وصفتم ربكم بصفات الكمال أزلاً وأبداً‏‏‏.

‏ قالوا‏:‏ وهذا القول خير من سائر الأقوال، مع موافقته المعقول وصحيح المنقول ‏‏.

‏ فقال لهم أولئك ‏:‏ هذا يستلزم حوادث لا أول لها‏‏‏.

‏ وذلك ممتنع، فقال لهم هؤلاء‏:‏ هذا كلام مبتدع، وإنما أخذتموه عن المعتزلة لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا قاله أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا دل عليه العقل؛ بل العقل يدل على نقيضه‏‏‏.

‏‏ والذين قالوا هذا القول من المعتزلة ومن تبعهم من الكرامية والأشعرية، ظنوا أنهم بهذا القول يثبتون حدوث العالم، بناء على أن الأجسام لا تخلو من الأعراض المحدثة، وما لا يخلو من الحوادث فهو محدث، وهذا القول هو الذي سلط عليهم الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم؛ فإن هذا القول الذي قالوه وجعلوه مستلزماً لحدوث العالم هو مناقض لحدوث العالم، بل هو مناقض لإثبات الصانع، فهم قصدوا نصر الإسلام بما ينافى دين الإسلام‏‏‏.

‏ ولهذا كثر ذم السلف لمثل هذا الكلام، وهذا هو أصل الكلام المذموم عند سلف الأمة وأئمتها، وذلك لأن الشيء إذا كان يمكن وجوده ويمكن عدمه فلا يوجد إلا بمقتض يستلزم وجوده، وإن جاز وجوده بدون ذلك أمكن أن تكون المخلوقات التي يمكن وجودها وعدمها وجدت بلا فاعل، فلابد للممكنات من وجود واجب يحصل به وجودها، ولا تكون مع وجود المقتضى التام محتملة للوجود و العدم، بل يكون وجودها لازماً حتماً؛ فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا شاء الرب شيئاً لم يمكن ألاّ يكون، بل يجب كونه بمشيئة الرب تعالى المستلزمة لقدرته‏‏.

‏ قالوا‏:‏ وإذا كان كذلك، فالحادث الذي يمكن وجوده ويمكن عدمه إذا حدث بدون سبب حادث مع استواء نسبته إلى جميع الأوقات، واستواء نسبة جميع الحوادث والأوقات إلى مشيئة الرب وقدرته لزم من ذلك أن يكون قد تخصص بعض الحوادث بالحدوث، و بعض الأزمنة بالحدوث، من غير مخصص يقتضي ذلك، ومن غير سبب حادث يقتضي الحدوث‏‏‏.

‏ وهذا، مع أنه فاسد في صريح العقول، فهو يبطل ما استدلوا به على إثبات الصانع، فلابد حينئذ أن يكون لحدوث الحوادث سبب حادث، وحينئذ فما من حادث إلا وهو مسبوق بحادث، وحينئذ فهذا يقتضي أن الله إذا كان متكلماً بمشيئته وقدرته، أمكن أنه لا يزال متكلماً بمشيئته وقدرته، ولم يجز أن يصير متكلما بعد أن لم يكن متكلما بحال؛ لأن ذلك يقتضي حدوث الحادث بلا سبب حادث وهو ممتنع، ويقتضي أنه تجدد له من صفات الكمال ما أمكن ثبوته في الأزل، وذلك ممتنع؛ وذلك لأن صفات الكمال التي يمكن اتصاف الرب بها لا يجوز أن يتوقف ثبوتها له على غيره؛ لأنه يلزم أن يكون ذلك الغير هو المعطي له صفات الكمال، ومعطي غيره صفات الكمال أولى بأن يكون هو الرب تعالى ورب العالمين، الخالق ما سواه، الذي يعطيه صفات الكمال لا يكون غيره ربا له بوجه من الوجوه، سبحانه وتعالى عن ذلك‏‏.

‏ وحينئذ فيجب اتصافه بالكلام إذا شاء أزلاً وأبداً‏‏‏.

‏‏ قال هؤلاء‏:‏ وهذا الأصل يبطل حجة الفلاسفة الدهرية، التي احتجوا بها على قدم العالم، وعجزتم أنتم معاشر المعتزلة وأتباعكم من المتكلمين القائلين بامتناع دوام الحوادث عنها، فإنهم ألزموكم على أصولكم؛ إذ قدرتم ثبوت موجود لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يفعل شيئاً، بل يمتنع منه في الأزل كل شيء يكون منه؛ من كلام أو فعل‏‏‏.

‏‏ فقالوا ‏:‏ إذا قدرنا وجود هذا، وأنه يبقى دائماً أبدا، لا يتكلم ولا يفعل شيئاً، ثم تكلم وفعل، فلا بد من سبب أوجب حدوث هذا الكلام والفعل، إما حدوث قدرة أو إرادة، أو علم أو غير ذلك من الأسباب‏‏‏.

‏ فأما إذا قدر حاله فيما لا يزال كحاله فيما لم يزل، امتنع أن يتجدد له كلام، أو فعل، أو غير فعل‏‏‏.

‏ فهذه حجة الفلاسفة عليكم، وأنتم لم تجيبوهم إلا بالمكابرة أو بالإلزام، فالمكابرة ‏:‏ دعواكم حدوث الحوادث بلا حدوث سبب، بل جعلتم نفس القدرة أو الإرادة القديمة تخصص أحد المتماثلين عن المثل الآخر بلا سبب أصلا، مع أن نسبتها إلى جميع المتماثلات نسبة واحدة، وهذا مع أنه معلوم البطلان بالضرورة، فهو يسد عليكم طريق ‏[‏إثبات الصانع‏]‏، فإنه مبني على أن الحوادث لابد لها من محدث، والمخصص لابد له من مخصص، والترجيح لابد له من مرجح، إذا كان المخصص أو المرجح من الممكنات، أو المحدثات‏‏.

‏‏ وأما الإلزام ‏:‏ فقولكم ‏:‏ إن هذا الإشكال لازم للفلاسفة، كما هو لازم لنا؛ فإن الحوادث إذا امتنع حدوثها عن علة تامة أزلية وليس عندكم إلا العلة التامة الأزلية لزم ألا يكون للحوادث محدث‏‏‏.

‏ وأما نحن إذا سلكنا طريق سلف الأمة وأئمتها، فنقول لهؤلاء الفلاسفة ‏:‏ بل خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، كما أخبرت به الرسل، فحدثت بأسباب حدثت قبل ذلك، وإذا قلنا ‏:‏ إنه لم يزل متكلما إذا شاء و‏‏{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏} [‏يس ‏:‏82‏]‏ كان ما يحدث حادثاً بما شاء أن يتكلم به من كلامه، لا سيما إذا قيل بنظير ذلك في إرادته سبحانه وتعالى وأمكننا أن نجيب الفلاسفة بجواب آخر، مركب عنا وعنكم‏‏‏.

‏ فنقول لهم ‏:‏ وجود حوادث لا أول لها ممكن أو ممتنع‏؟‏ ‏‏

‏فإن قلتم ‏:‏ ممتنع، لزمكم القول بحدوث العالم، وأمكن حينئذ صحة قول الكرامية ونحوهم‏‏‏.

‏ وإن قلتم‏:‏ هو ممكن‏‏‏.

‏‏ قيل ‏:‏ فممكن حينئذ أن يكون هذا العالم حدث بسبب حادث قبله‏‏‏.

‏ وكذلك السبب الآخر لا إلى غاية، والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع‏‏‏.

‏ والمقصود هنا التنبيه على أن هذه مقامات دقيقة، مشكلة، بسببها افترقت الأمة واختلفت، فإذا اجتهد الرجل في متابعة الرسول، والتصديق بما جاء به، وأخطأ في المواضع الدقيقة التي تشتبه على أذكياء المؤمنين، غفر الله له خطاياه؛ تحقيقاً لقوله‏:‏‏{ ‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏} [‏البقرة‏:‏286‏]‏ وقد ثبت في الصحيح أن الله قال "قد فعلتُ‏"‏‏‏‏.

‏‏ ‏‏

‏وأما قول القائل‏:‏ ‏[‏ومن قال‏:‏ كلام الله منزه عن سمات الحدوث إذ الصوت والحرف لازمهما الحدوث، فكما لذاته التنزيه عن سمات الخلق كذلك لقوله الحق‏]‏ فيقال له‏:‏ ‏‏

‏لا نزاع بين المسلمين بل وسائر أهل الملل وغيرهم من العقلاء أن الخالق منزه عن سمات الحدوث؛ فإن قدمه ضروري، فيمتنع أن يقوم دليل على حدوثه، و‏[‏السمة‏]‏ هي العلامة والدليل‏.‏ ولكن منازعوك في الصوت والحرف جمهور الخلائق؛ إذ لم يوافق الكلابية على قولهم أحد من الطوائف، لا الجهمية، ولا المعتزلة، ولا الضرارية، ولا النجارية، ولا الكرامية، ولا السالمية، ولا جمهور المرجئة والشيعة، ولا جمهور أهل الحديث والفقه والتصوف، ولا الفلاسفة؛ لا الإلهيون، ولا الطبائعيون على اختلاف أصنافهم‏‏‏.

‏ وخصومهم منهم من يقول‏:‏ الحروف محدثة مخلوقة في محل منفصل عن الله، كما يقولون هم ذلك، لكن يقولون ‏:‏ هذا كلام الله ليس لله كلام غيره، كما أجمع المسلمون على أن هذا كلام الله، بل أجمعت الأمم على أن الكلام لا يعقل إلا كذلك‏‏‏.

‏ فإن قلتم‏:‏ هذا هو كلام الله، لزمكم أن يكون كلامه مخلوقاً، وإن قلتم ‏:‏ ليس ذلك كلام الله، خالفتم المعلوم بالاضطرار من الشرع واللغة، وإن قلتم ‏:‏ نسمي هذا كلام الله، وهذا كلام الله، كلاهما حقيقة بطريق الاشتراك اللفظي‏.‏ قيل لكم‏:‏ فإذا ثبت أن الكلام المخلوق في غيره هو كلام له حقيقة، بطل أصل حجتكم، التي احتججتم بها، حيث قلتم‏:‏ الكلام لا يكون كلاماً إلا لمن قام به، ولا يكون المتكلم متكلما بكلام يحل في غيره‏‏‏.

‏‏ وقالوا لكم أيضاً ‏:‏ إثبات المعنى الذي أثبتموه غير هذه الحروف، والأصوات يحتاج إلى إثبات وجوده، ثم إثبات قدمه، ثم إثبات حدوثه، وكل من هذه المقامات أنتم فيها منقطعون، كما هو مبسوط في موضعه، وكما اعترف بذلك فضلاء هذه المقالة‏‏.

‏‏ والفريق الثاني يقول لكم ‏:‏ إنا نسلم لكم أن الحروف والأصوات محدثة، لكن نقول‏:‏ هي كلام الله القائم بذاته، فإن قلتم ‏:‏ هذا يستلزم كونه محلا للحوادث، قالوا لكم‏:‏ ونفس هذا من كلام المعتزلة الذي تلقيتموه عنهم، وليس لكم على ذلك حجة، لا عقلية ولا شرعية، وقد اعترف فضلاؤكم بأن هذا القول يلزم جمهور الطوائف، وقال لكم منازعوكم‏:‏ قد دل على هذا الأصل الأدلة الشرعية والعقلية‏.‏

والفريق الثالث‏:‏ يقول لكم‏:‏هب أنها محدثة، أهي محدثة الأعيان أم نوعها محدث‏؟‏ فإن قلتم‏:‏ إن كل فرد من أفرادها محدث لم ينفعكم‏.

‏ وإن قلتم‏:‏ بل النوع محدث لامتناع حوادث لا تتناهى‏.

‏ قيل لكم‏:‏ هذا مما ينازعكم فيه جمهور أهل الحديث، مع جمهور الفلاسفة، وينازعكم فيه أئمة الملل وأئمة النحل، وينازعكم فيه الأئمة من أهل التوراة والإنجيل،والقرآن، والأئمة،من الصابئة،والفلاسفة، والمجوس وغيرهم، وإنما ابتدع هذا القول في الإسلام طائفة من أهل الكلام، الذين ذمهم أئمة الدين، وأعلام المسلمين، وهذا القول ليس معلوماً بالكتاب والسنة والإجماع، ولا قاله أحد من السلف والأئمة، وإنما هو قول مبتدع، ومبتدعه يزعم أن العقل دل عليه، ويثبت به حدوث العالم، والعلم بإثبات الصانع‏.‏

وهؤلاء يقولون له ‏:‏ العقل يدل على نقيضه، وأنه مناف مضاد لحدوث العالم، ولإثبات الصانع، وهذا مبسوط في موضعه، وإنما المقصود التنبيه على ما في هذا الكلام من موارد النزاع، ومواقع الإجماع‏.

‏ وقول القائل‏:‏ كما لذاته التنزيه عن سمات الخلق، فكذلك لقوله الحق‏.‏ فهذا من جنس سجع الكهان، الذي لا يقيم حقاً ولا يبطل باطلا، فهل تقول‏:‏ إن كل ما وصف به الرب من الصفات يتصف به كل ما له من الكلمات، أو غيرها من الصفات‏؟‏ وإذا قيل‏:‏ إن الرب تعالى إله قادر، خالق معبود، فهل يجب أن يكون شيء من كلماته وصفاته إلهاً قادراً، خالقاً، معبوداً‏؟‏ وهذا القول يضاهي قول النصارى، الذين قالوا‏:‏ كما أن أقنوم الوجود إله، فكذلك أقنوم الكلمة والروح، فيثبتون للصفات الإلهية، التي أثبتوها للذات‏.

‏ والرب تعالى له كلام قائم بمحل لا يوجد بغيره، إذ لابد للكلام من محل لا يوجد الكلام بدونه، فهل يجب أن يفتقر الرب إلى محل يقوم به، كما يفتقر الكلام إلى ذلك‏؟‏ ولكن يجب تنزيه كلامه عن كل نقص وعيب؛ إذ هو المستحق للكمال في ذاته، وصفاته، وأفعاله، ويمتنع أن يخلو عن صفات الكمال من الحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، وغير ذلك من صفات الكمال، مع أنه يتصف بها بعض مخلوقاته، فالموصوف الواجب الوجود القديم الأزلي أحق بصفات الكمال من المخلوقات، وكل كمال ثبت لمخلوق فمن الخالق استفاده، والخالق أوهبه إياه، وأعطاه فواهب الكمال، ومعطيه أحق به وأولى‏.

‏ وهذا مما يعبر عنه كل قوم باصطلاحهم، حتى تقول المتفلسفة‏:‏ كل كمال ثبت للمعلول فهو من كمال العلة‏.

‏ ومعلوم أن المخلوق الذي خلق من قبل، ولم يك شيئاً ليس له من نفسه شيء أصلا، بل كل ما له فمن خالقه سبحانه وتعالى‏.

‏ وأما قوله‏:‏ ولتعلم أن الحرف اللساني والحرف البناني كلاهما مقيد بزمان، يصرفه المولى متكلم قبل الزمان، فتعالى كلامه عن أن تكتنفه الحدثان، فقد عرف منازعة المنازعين له في هذا، ولم يذكر إلا مجرد الدعوى، وقد علم أن تصور الدعوى معلوم الفساد بالضرورة عند أكثر العقلاء، وأن الدليل عليها مقدمات ينازعه فيها جمهور العقلاء، وآخرها ينتهي إلى مقدمات تلقوها عن شيوخهم المعتزلة؛ فإن الكلابية والأشعرية إنما أخذوا مقدمات هذا الكلام، ومادته منهم ‏.‏ وقد عرف حالهم في ذلك‏.

‏ وقوله‏:‏ المولى متكلم قبل الزمان، إن أراد أنه سبحانه وتعالى قبل السموات والأرض، والليل والنهار، وقبل جميع المخلوقات، فهذا حق، لكن من أين له أن كل ما كلم به عباده، ويكلمهم به يوم القيامة، يجب أن يكون قبل جميع المخلوقات‏؟‏ و من أين له أنه قبل خلق العالم كان منادياً لموسى، قائلا له‏‏:‏‏{‏‏‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏} ‏[‏طه‏:‏14‏]‏‏.

‏ وإن أراد أنه سبحانه وتعالى قبل ما يوصف بالقبل فهذا ممتنع، فإنه سبحانه موصوف بأنه الأول قبل كل شيء، وإن أراد بذلك أن الزمان مقدار الفعل والحركة، وأن ذلك ممتنع في الأزل، فقد عرف أن أئمة الملل والنحل ينازعونه في هذا، مع اتفاق أهل الملل على أن الله خالق السموات والأرض في ستة أيام، وقوله‏:‏ إن الحرف والصوت أداتان يعبر بهما عن المعنى القائم بذات الله، كما يعبر الإنسان عما قام به من الطلب؛ تارة بالبنان، وتارة باللسان، وتارة بالرأس عند طلب الرواح، وعند طلب الإتيان فهذا مذهب الحق، ومركب الصدق‏.

‏‏ فيقال له ‏:‏ هذا عليه اعتراضات‏:‏

أحدها ‏:‏ أن يقال‏:‏ ما ذلك المعنى القائم بالذات‏؟‏ أهو واحد كما يقوله الأشعري، وهو عنده مدلول التوراة، والإنجيل، والقرآن ومدلول آية الكرسي والدَّيْن، ومدلول سورة الإخلاص وسورة الكوثر‏؟‏ أم هو معان متعددة‏؟‏ فإن قال بالأو