فَصْـــل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى ...

السؤال: فَصْـــل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ}

الإجابة

الإجابة:

في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53-54‏]‏‏.

‏‏ وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين، وأما آيتا النساء، قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48- 116‏]‏، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضًا بنصوص القرآن واتفاق المسلمين‏.‏

وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خَصَّ فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علَّقه بالمشيئة فقال‏:‏ ‏{‏‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏‏ ‏.‏

وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه كما تَرُدُّ على الوعيديَّة من الخوارج والمعتزلة، فهي تَرُدُّ أيضًا على المرجئة الواقفية، الذين يقولون‏:‏ يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع، فإنه قد قال‏:‏ ‏{‏‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏‏ فأثبت أن ما دون ذلك هو مغفور لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله‏:‏ ‏{‏‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ‏}، ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله‏:‏ ‏{‏‏لِمَن يَشَاء}‏‏، فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هي لمن يشاء، دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس‏.

‏‏ وحينئذ، فمن غُفِر له لم يُعذَّب، ومن لم يُغْفَر له عُذِّب، وهذا مذهب الصحابة والسلف والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضهم يغفر له، لكن هل ذلك على وجه الموازنة والحكمة، أو لا اعتبار بالموازنة‏؟‏ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم، بناء على أصل الأفعال الإلهية، هل يعتبر فيها الحكمة والعدل‏؟‏ وأيضًا، فمسألة الجزاء فيها نصوص كثيرة دلت على الموازنة، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.

‏‏ والمقصود هنا أن قوله‏:‏‏{‏‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏، فيه نهى عن القنوط من رحمة الله تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِل لأحد أن يقنط من رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه، ولا أن يُقَنِّط الناس من رحمة الله‏.

‏‏ قال بعض السلف‏:‏ إنَّ الفقيه كل الفقيه الذي لا يُؤْيِس الناس من رحمة الله، ولا يُجَرِّيهم على معاصي الله‏.

‏‏ والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له، إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول‏:‏ نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه، فهو ييأس من توبة نفسه، وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعترى كثيرًا من الناس‏.‏

والقنوط يحصل بهذا تارة، وبهذا تارة، فالأول‏:‏ كالراهب الذي أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له، فقتله وكَمَّلَ به مائة، ثم دُلَّ على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته‏.

‏‏ والحديث في الصحيحين ‏.‏ والثاني‏:‏ كالذى يرى للتوبة شروطًا كثيرة، ويقال له‏:‏ لها شروط كثيرة، يتعذر عليه فعلها، فييأس من أن يتوب‏.‏

وقد تنازع الناس في العبد‏:‏ هل يصير في حال تمتنع منه التوبة إذا أرادها‏؟‏ والصواب الذي عليه أهل السنة والجمهور‏:‏ أن التوبة ممكنة من كل ذنب، وممكن أن الله يغفره، وقد فرضوا في ذلك من توسط أرضًا مغصوبة، ومن توسط جَرْحَى، فكيف ما تحرك قتل بعضهم‏؟‏‏!‏ فقيل‏:‏ هذا لا طريق له إلى التوبة‏.‏ والصحيح‏:‏ أن هذا إذا تاب، قبل الله توبته‏.‏

أما من توسط الأرض المغصوبة، فهذا خروجه بنية تخلية المكان وتسليمه إلى مستحِقِّه ليس منهيًا عنه ولا محرَّمًا، بل الفقهاء متفقون على أن من غصب دارًا وترك فيها قماشه وماله، إذا أمر بتسليمها إلى مستحقها فإنه يؤمر بالخروج منها، وبإخراج أهله وماله منها، وإن كان ذلك نوع تَصَرُّف فيها، لكنه لأَجْلِ إخلائها‏.

‏‏ والمشرك إذا دخل الحرم أمر بالخروج منه، وإن كان فيه مرور فيه، ومثل هذا حديث الأعرابي المتَّفَق على صحته لمَّا بال في المسجد فقام الناس إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تُزْرِموه‏"‏‏، أي لا تقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يصبوا على بوله دلوًا من ماء، فهو لما بدأ بالبول كان إتمامه خيرًا من أن يقطعوه، فيلوث ثيابه وبدنه، ولو زنا رجل بامرأة ثم تاب لنزع، ولم يكن مذنبًا بالنزع، وهل هو وطء‏؟‏ فيه قولان‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.

‏‏ فلو حلف ألاَّ يطأ امرأته بالطلاق الثلاث، فالذين يقولون‏:‏ إنه يقع به الطلاق الثلاث إذا وطئها تنازعوا‏:‏ هل يجوز له وطؤها‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏

أحدهما‏:‏ يجوز كقول الشافعى‏.‏

والثاني‏:‏ لا يجوز كقول مالك، فإنه يقول‏:‏ إذا أَجزْتَ الوطء لزم أن يباشرها في حال النزع وهى محرمة، وهذا إنما يُجَوَّزه للضرورة، لا يجوزه ابتداء، وذلك يقول‏:‏ النزع ليس بمحرم‏.‏

وكذلك الذين يقولون‏:‏ إذا طلع عليه الفجر وهو مولج فقد جامع، لهم في النزع قولان‏:‏ في مذهب أحمد وغيره‏.

‏‏ وأما على ما نصرناه فلا يحتاج إلى شيء من هذه المسائل، فإن الحالف إذا حنث يكفر يمينه ولا يلزمه الطلاق الثلاث، وما فعله الناس حال التبيُّن من أَكْل وجَمَاع فلا بأس به، لقوله‏:‏‏{‏حتى‏}‏ والمقصود أنه لا يجوز أن يقنط أحد، ولا يُقَنِّط أحدًا من رحمة الله، فإن الله نهى عن ذلك، وأخبر أنه يغفر الذنوب جميعًا‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏} ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، معه عموم على وجه الإخبار، فدل أن الله يغفر كل ذنب؛ ومعلوم أنه لم يُرِدْ أن من أذنب من كافر وغيره فإنه يغفر له، ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والتواتر والقرآن والإجماع، إذ كان الله أهلك أممًا كثيرة بذنوبها، ومن هذه الأمة من عُذِّبَ بذنوبه، إما قدرًا، وإما شرعًا في الدنيا قبل الآخرة‏.

‏‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏‏{‏‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏} ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7- 8‏]‏، فهذا يقتضى أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ بل المراد أن الله قد يغفر الذنوب جميعًا‏.

‏‏ أي‏:‏ ذلك مما قد يفعله أو أنه يغفره لكل تائب، لكن يقال‏:‏ فَلِمَ أتى بصيغة الجزم والإطلاق في موضع التردد والتقْييد‏؟‏ قيل‏:‏ بل الآية على مقتضاها، فإن الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، ولم يذكر أنه يغفر لكل مذنب، بل قد ذكر في غير موضع أنه لا يغفر لمن مات كافرًا، فقال‏:‏‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏} ‏[‏محمد‏:‏ 34‏]‏‏.

‏‏ وقال في حق المنافقين‏:‏ ‏{‏‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏} ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏،لكن هذا اللفظ العام في الذنوب هو مطلق في المذنبين، فالمذنب لم يتعرض له بنفي ولا إثبات، لكن يجوز أن يكون مغفورًا له، ويجوز ألا يكون مغفورًا له؛ إنْ أتى بما يوجب المغفرة غُفِر له، وإن أَصَرَّ على ما يناقضها، لم يُغْفَر له‏.‏

وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة؛ الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى، بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة‏.

‏‏ وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف؛ رد على من يقول‏:‏ إن الداعي إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي، فيه‏:‏‏(‏أنه قيل لذلك الداعية‏:‏ فكيف بمن أضللتَ‏؟‏‏)‏، وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث، وليسوا من العلماء بذلك،كأبي على الأهوازى وأمثاله،ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة،وما يحتج به وما لا يحتج به، بل يَرْوون كل ما في الباب محتجين به وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم‏.‏

وقد تاب قادة الأحزاب مثل‏:‏ أبى سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبى جهل، وغيرهم بعد أن قُتِل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا وغفر الله لهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم‏‏ ‏"‏‏يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله‏؟‏‏"‏‏‏.‏

وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}‏‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏، قال‏:‏ كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم أولئك الجن، والإنس يعبدونهم ‏.

‏‏ ففي هذا أنه لم يضر الذين أسلموا عبادة غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولًا‏.

‏‏ وأيضًا، فالداعي إلى الكفر والبدعة، وإن كان أضل غيره، فذلك الغير يُعَاقَب على ذنبه؛ لكونه قَبِل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجْل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب أو لم يتب، حالهم واحد، ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضد ما كان عليه من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة‏.‏

وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر ثم أسلموا وختم الله لهم بخير‏.‏

ومن ذلك توبة قاتل النفس‏.‏

والجمهور على أنها مقبولة‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لا تقبل‏.

‏‏ وعن أحمد روايتان‏.

‏‏ وحديث قاتل التسعة والتسعين في الصحيحين دليل على قبول توبته، وهذه الآية تدل على ذلك‏.

‏‏ وآية النساء إنما فيها وعيد في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، ومع هذا فهذا إذا لم يتب ‏.

‏‏ وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس، فبأي وجه يكون وعيد القاتل لاحقًا به وإن تاب‏؟‏ هذا في غاية الضعف، ولكن قد يقال‏:‏ لا تقبل توبته بمعنى أنه لا يسقط حق المظلوم بالقتل، بل التوبة تسقط حق الله، والمقتول مُطَالِبُه بحقه، وهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الديْن، فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال "الشهيد يغفر له كل شيء إلا الديْن‏"‏‏ لكن حق الآدمي يُعْطَاه من حسنات القاتل‏.‏

فمن تمام التوبة، أن يستكثر من الحسنات حتى يكون له ما يقابل حق المقتول، ولعل ابن عباس رأى أن القتل أعظم الذنوب بعد الكفر، فلا يكون لصاحبه حسنات تُقَابِل حق المقتول، فلابد أن يبقى له سيئات يعذب بها، وهذا الذي قاله قد يقع من بعض الناس، فيبقى الكلام فيمن تاب وأخلص،وعجز عن حسنات تعادل حق المظلوم، هل يجعل عليه من سيئات المقتول ما يعذب به‏؟‏ وهذا موضع دقيق، على مثله يُحْمَلُ حديث ابن عباس، لكن هذا كله لا ينافي مُوجِب الآية، وهو أن الله تعالى يغفر كل ذنب؛ الشرك، والقتل، والزنا، وغير ذلك من حيث الجملة، فهي عامة في الأفعال مطلقة في الأشخاص‏.‏

ومثل هذا قوله ‏:‏ ‏{‏‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏} ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏،عام في الأشخاص مطلق في أحوال‏.‏‏.‏‏.‏ الأرْجُل؛ إذ قد تكون مستورة بالخف واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال‏.

‏‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ‏} ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏، عام في الأولاد، عام في الأحوال؛ إذ قد يكون الولد موافِقًا في الدين ومخالفًا، وحرًا وعبدًا‏.

‏‏ واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال‏.

‏‏ وكذلك قوله‏:‏‏{‏‏يَغْفِرُ الذُّنُوبَ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، عام في الذنوب مطلق في أحوالها، فإن الذنب قد يكون صاحبه تائبًا منه،وقد يكون مصرًا، واللفظ لم يتعرض لذلك، بل الكلام يبين أن الذنب يغفر في حال دون حال،فإن الله أمر بفعل ما تُغْفَر به الذنوب،ونهى عما به يحصل العذاب يوم القيامة بلا مغفرة،فقال‏:‏ ‏{‏‏وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54 - 59‏]‏ فهذا إخبار أنه يوم القيامة يُعذِّب نفوسًا لم يغفر لها، كالتي كذبت بآياته واستكبرت وكانت من الكافرين، ومثل هذه الذنوب غفرها الله لآخرين لأنهم تابوا منها‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏‏؟‏ قيل‏:‏ إن القرآن قد بيَّن توبة الكافر، وإن كان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 86 - 89‏]‏، وقوله ‏:‏ ‏{‏‏كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ‏} أي‏:‏ إنه لا يهديهم مع كونهم مرتدين ظالمين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏‏وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}‏‏، فمن ارتد عن دين الإسلام لم يكن إلا ضالًا، لا يحصل له الهدى إلى أي دين ارتد‏.

‏‏ والمقصود أن هؤلاء لا يهديهم الله ولا يغفر لهم إلا أن يتوبوا‏.‏

وكذلك قال في قوله‏:‏ ‏{‏‏مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ‏} ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏، ومن كفر بالله من بعد إيمانه من غير إكراه فهو مرتد، قال‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏} ‏[‏النحل‏:‏ 110‏]‏‏.

‏‏ وهو سبحانه في آل عمران ذكر المرتدين، ثم ذكر التائبين منهم، ثم ذكر من لا تقبل توبته،ومن مات كافرًا، فقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏90-91‏]‏‏.‏

وهؤلاء الذين لا تقبل توبتهم قد ذكروا فيهم أقوالًا؛ قيل‏:‏ لنفاقهم،وقيل‏:‏ لأنهم تابوا مما دون الشرك ولم يتوبوا منه، وقيل‏:‏ لن تقبل توبتهم بعد الموت، وقال الأكثرون، كالحسن وقتادة وعطاء الخراساني و السدى‏:‏ لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، فيكون هذا كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.

‏‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏، قال مجاهد وغيره من المفسرين‏:‏ ازدادوا كفرًا ثبتوا عليه حتى ماتوا‏.

‏‏ قلت‏:‏ وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفرًا بعد كفر، فقوله‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ ازْدَادُواْ‏}‏‏ بمنزلة قول القائل‏:‏ ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وهى التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب ورجع عن كفره، فلم يزدد، بل نقص؛ بخلاف المُصِر إلى حين المعاينة، فما بقى له زمان يقع لنقص كفره فضلًا عن هدمه‏.

‏‏ وفي الآية الأخرى قال‏:‏ ‏{‏‏لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}، وذكر أنهم آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرًا، قيل‏:‏ لأن المرتد إذا تاب غُفِرَ له كفره، فإذا كفر بعد ذلك ومات كافرًا حبط إيمانه، فعوقب بالكفر الأول والثاني، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال‏ "قيل‏:‏ يا رسول الله، أنؤاخذ بما عَمِلْنا في الجاهلية‏؟‏ فقال‏:‏ ‏من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر‏"‏‏، فلو قال‏:‏ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم، كان هؤلاء الذين ذكرهم في آل عمران فقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏، بل ذكر أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا بعد ذلك، وهو المرتد التائب، فهذا إذا كفر وازداد كفرًا لم يُغْفَرْ له كفره السابق أيضًا، فلو آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، لم يكونوا قد ازدادوا كفرًا فلا يدخلون في الآية‏.‏

والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة من تكررت ردته، أو قبول توبة الزنديق، فذاك إنما هو في الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا قُدِّر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله‏:‏ ‏{‏‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏

ونحن حقيقة قولنا أن التائب لا يعذب لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا شرعًا ولا قدرًا، والعقوبات التي تقام من حدٍّ، أو تعزير، إما أن يثبت سببها بالبينة، مثل قيام البينة بأنه زنا أو سرق أو شرب، فهذا إذا أظهر التوبة لم يوثق بها، ولو دُرِئ الحد بإظهار هذا لم يقم حد، فإنه كل من تقام عليه البينة يقول‏:‏ قد تُبت، وإن كان تائبًا في الباطن، كان الحد مكفرًا، وكان مأجورًا على صبره، وأما إذا جاء هو بنفسه فاعترف وجاء تائبًا، فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد، نص عليه في غير موضع، وهى من مسائل التعليق، واحتج عليها القاضي بعدة أحاديث‏.

‏‏ وحديث الذي قال "أصبت حدًا فأقمه علىَّ، فأْقيمت الصلاة‏"‏‏ يدخل في هذا؛ لأنه جاء تائبًا، وإن شهد على نفسه كما شهد به ماعز والغامدية واختار إقامة الحد أقيم عليه، و إلاَّ فلا، كما في حديث ماعز "فهلاَّ تركتموه‏؟‏‏"‏‏ ‏.

‏‏ و الغامدية ردها مرة بعد مرة‏.

‏‏ فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا، ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه، كالذي يذنب سرًا، وليس على أحد أن يقيم عليه حدًا، لكن إذا اختار هو أن يعترف ويقام عليه الحد، أقيم، وإن لم يكن تائبًا، وهذا كقتل الذي ينغمس في العدو هو مما يرفع الله به درجته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله‏؟‏‏"‏‏‏.

‏‏ وقد قيل في ماعز‏:‏ إنه رجع عن الإقرار، وهذا هو أحد القولين فيه في مذهب أحمد وغيره، وهو ضعيف، والأول أجود‏.

‏‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار‏.‏

ويقولون‏:‏ رجوعه عن الإقرار مقبول‏.

‏‏ وهو ضعيف، بل فَرْقٌ بين من أقرَّ تائبًا، ومن أقرَّ غير تائب، فإسقاط العقوبة بالتوبة كما دلت عليه النصوص أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقًا، فالرجوع الذي هو فيه كاذب أَوْلَى‏.

‏‏ آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين‏.



___________________

المجلد السادس عشر

مجموع الفتاوي لابن تيمية