المقدمة الثانية لابد من اعتبار أمرين

السؤال: المقدمة الثانية لابد من اعتبار أمرين

الإجابة

الإجابة: وأما المقدمة الثانية فنقول‏:‏ لابد من اعتبار أمرين‏:‏
أحدهما‏:‏ أن يكون الكمال ممكن الوجود‏.‏

والثانى‏:‏ أن يكون سليمًا عن النقص، فإن النقص ممتنع على الله، لكن بعض الناس قد يسمى ما ليس بنقص نقصًا، فهذا يقال له‏:‏ إنما الواجب إثبات ما أمكن ثبوته من الكمال السليم عن النقص، فإذا سميت أنت هذا نقصًا وقدر أن انتفاءه يمتنع، لم يكن نقصه من الكمال الممكن، ولم يكن هذا عند من سماه نقصًا من النقص الممكن انتفاؤه‏.
‏‏
فإذا قيل‏:‏ خلق المخلوقات في الأزل صفة كمال فيجب أن تثبت له، قيل‏:‏ وجود المخلوقات كلها أو واحد منها يستلزم الحوادث كلها، أو واحد منها في الأزل ممتنع‏.‏

ووجود الحوادث المتعاقبة كلها في آن واحد ممتنع، سواء قدر ذلك الآن ماضيًا أو مستقبلاً، فضلا عن أن يكون أزليًا، وما يستلزم الحوادث المتعاقبة يمتنع وجوده في آن واحد، فضلا عن أن يكون أزليًا، فليس هذا ممكن الوجود فضلا عن أن يكون كمالاً، لكن فعل الحوادث شيئًا بعد شيء أكمل من التعطيل عن فعلها، بحيث لا يحدث شيئًا بعد أن لم يكن، فإن الفاعل القادر على الفعل أكمل من الفاعل العاجز عن الفعل‏.‏

فإذا قيل‏:‏ لا يمكنه إحداث الحوادث بل مفعوله لازم لذاته، كان هذا نقصًا بالنسبة إلى القادر الذي يفعل شيئًا بعد شيء، وكذلك إذا قيل‏:‏ جعل الشيء الواحد متحركا ساكنًا موجودًا معدومًا صفة كمال، قيل‏:‏ هذا ممتنع لذاته‏.‏

وكذلك إذا قيل‏:‏ إبداع قديم واجب بنفسه صفة كمال‏.‏

قيل‏:‏ هذا ممتنع لنفسه، فإن كونه مبدعًا يقتضى ألاَّ يكون واجبًا بنفسه، بل واجبًا بغيره، فإذا قيل‏:‏ هو واجب موجود بنفسه، وهو لم يوجد إلا بغيره، كان هذا جمعًا بين النقيضين‏.‏

وكذلك إذا قيل‏:‏ الأفعال القائمة والمفعولات المنفصلة عنه، إذا كان اتصافه بها صفة كمال، فقد فاتته في الأزل، وإن كان صفة نقص فقد لزم اتصافه بالنقائص‏.‏ قيل‏:‏ الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته يمتنع أن يكون كل منها أزليًا‏.‏

وأيضًا، فلا يلزم أن يكون وجود هذه في الأزل صفة كمال، بل الكمال أن توجد حيث اقتضت الحكمة وجودها‏.‏
وأيضًا، فلو كانت أزلية لم تكن موجودة شيئًا بعد شيء‏.‏

فقول القائل‏:‏ فيما حقه أن يوجد شيئًا بعد شيء فينبغي أن يكون في الأزل، جمع بين النقيضين‏.‏ وأمثال هذا كثير؛ فلهذا قلنا‏:‏ الكمال الممكن الوجود، فما هو ممتنع في نفسه فلا حقيقة له، فضلا عن أن يقال‏:‏ هو موجود‏.
‏ أو يقال‏:‏ هو كمال للموجود‏.‏

وأما الشرط الآخر، وهو قولنا‏:‏ الكمال الذي لا يتضمن نقصًا على التعبير بالعبارة السديدة أو الكمال الذي لا يتضمن نقصًا يمكن انتفاؤه على عبارة من يجعل ما ليس بنقص نقصًا‏.
‏‏
فاحترز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض، وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصًا كالأكل والشرب مثلاً‏.‏

فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان، أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل والشرب؛ لأن قوامه بالأكل والشرب‏.‏

فإذا قدر غير قابل له، كان ناقصًا عن القابل لهذا الكمال، لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره‏.‏
وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب، وهو مستلزم لخروج شيء منه، كالفضلات، وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه أكمل ممن يحتاج إلى دخول شيء فيه، وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج في كماله إلى غيره، فإن الغني عن شيء أعلى من الغني به، والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره‏.‏

ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق، وهو نقص بالنسبة إلى الخالق، وهو كل ما كان مستلزمًا لإمكان العدم عليه المنافى لوجوبه وقيوميته، أو مستلزمًا للحدوث المنافى لقدمه، أو مستلزمًا لفقره المنافى لغناه‏.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)