سؤال حول الرُّقية الشرعية

السؤال: نظرًا لِما انتشر في الآونة الأخيرة من كثرة إصابة الناس بالعين أو السِّحر وما أشبه ذلك, ولِما نراه من بعضهم من التوسُّع في الرقية والتداوي بالأعشاب وغيرِها ظهرتْ كثيرٌ من الصُّور التي لا نعلَمُ حُكْمَها في الشرع وهل يجوز التداوي بِها أم لا, فلِذا سأعرضُ عليكم بعضَ الصُّور المنتَشِرَة بين النَّاس وأرجو منكم التأصيل في هذه المسألة، وهلِ الرقية الشرعيَّة الأصلُ فيها التوقيف فلا يُقْبَلُ فيها إلا ما جاء في الكِتابِ والسُّنَّة, أوْ هِيَ من باب التَّداوي؟ فعليه فكلُّ ما ثبت نفعه جاز استِعْمالُه؟ ومن هذه الصُّور: 1- تدخين البيت كلِّه أوِ المريض، وهذا الدخون يُؤخَذ من العطَّار, أو مِمَّن يُعالج بالطِّبِّ الشَّعبِي, ومِنْ هذه الأشياء التِي يدخن بِها: (كمون, كراوية, سكر نبات, شذاب, نافعة خضراء ... وغيرها). 2 - وضع أشياءَ في زوايا البيْتِ الذي فيه المريض؛ مثل: (الصبر, أو المر, أو الملح). 3- مسح البيت كلِّه وخاصَّة في وقتِ المَغْرِب بِمنشفة ثُمَّ تُغسلُ ويَشرَبُ المَرِيضُ من هذا الماء. 4- إذا سَقَطَ الطفل في مكانٍ فلا يذكر اسم الله عليه, ويمسح المكان بِمنشفةٍ باليدِ اليُسرى ثم يغسل ويشرب منها الطفل. 5- غسل أشياءَ من الشخص الذي يُشَكُّ فيه أنه عائن – كالفناجين, أو الفصم وغيرها ويشرب منه المريض ويغتَسِل به. 6- أن يدخن المريض بسكَّر نبات ثُمَّ تتبين ملامح وجه العائن على السكر بعد ما يذوب.

الإجابة

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّه العلاج بالرُّقى والأدعية مشروع إذا كانتْ بالكتاب أوِ السُّنَّة أو ما يشتَمِلُ على ذِكْرِ اللَّه، وكانت بلغة مفهومة للمرقي؛ لأنَّ ما لا يُفْهَم لا يُؤمَن أن يكون فيه شيء من الشرك.

ففي "صحيح مسلم" عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا نَرقي في الجاهليَّة فقُلنا: يا رسولَ الله، كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرِضُوا عَلَيَّ رُقاكم، لا بأْسَ بِالرُّقى ما لم يكن فيه شرك"، فضابط الرقية الشرعيَّة أن تكون مفهومة.

وقال الربيع: سألتُ الشَّافعيَّ عن الرقية فقال: "لا بأس أن تَرقِي بِكتاب الله، وبِما تَعرفُ من ذِكْرِ الله" قُلْتُ: أيرقي أهلُ الكتاب (اليهود والنصارى) المسلمين؟ قال: "نعم، إذا رقوا بِما يُعرف من كتاب الله وبذكر الله".

فالقُرآنُ شِفاءٌ كلُّه، وقدْ دلَّتِ السُّنَّة المطهَّرة على تَخصيصِ بَعْضِ الآياتِ للرُّقية؛ كسورة البقرة عمومًا، وآية الكرسي، وأواخر سورة البقرة، وسورة الإخلاص، والمعوذتَيْنِ، ولكنَّ هذا لا يعني عَدَمَ التَّوسُّع في غَيْرِها، فإنَّ كثيرًا منَ السَّلف الصَّالِح رحِمهم الله قد توسَّعوا في الرقية؛ لأنَّه من باب الطِّبِّ، والطب بابُه التَّجربة ما دام في دائرة المشروع ولم يتلبس بِما هو شركٌ أوْ مُؤَدٍّ إلى الشِّرْك، فالمراد هو إيصال أثرها إلى المَرْقِيِّ بأي وجه، ولذلك كانوا يقرؤون الرقية على الماء ونحوه، ليصل نفعُها إلى المريض.

قال ابْنُ مُفْلِح: "وقال صالحُ بن الإمام أحمد: رُبَّما اعتللتُ فيأخُذُ أَبِي قدحًا فيه ماء، فيَقْرَأُ عليه، ويقول لي: اشرب منه، واغسل وجهك ويديك، ونَقَلَ عبدالله أنَّه رأى أباه -يعني أحمد بن حنبل- يعوِّذُ في الماء، ويقرَأُ عليْهِ ويشربه، ويصبُّ على نفسه منه" انظر "الآداب الشرعيَّة" (2/144).

وقال أيضًا: "وقال يوسف بن موسى: إنَّ أبا عبدالله كان يؤتَى بالكوز ونَحن بالمسجد، فيقرأ عليه ويعوِّذ" اه. وقال بمثله شيخُ الإسلام ابْنُ تيمية وتلميذُه ابْنُ القَيِّم.

وقد أفتى بِجواز ذلك كثيرٌ منَ المُعاصرين: الشيخُ مُحمَّد بنُ إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ مُحمَّد بن صالح العُثَيْمين، والشيخ صالح الفوزان، والشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وقد قال الشيخُ ابْنُ جبرين: "وثَبَتَ عن السلف القراءةُ في ماءٍ ونحوِه، ثُمَّ شربه أو الاغتسال به، مِمَّا يُخَفِّف الألم أوْ يزيله؛ لأنَّ كلام الله تعالى شفاء، كما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].

وهكذا القراءةُ في زيتٍ أو دهن أو طعامٍ، ثم شربه أو الادِّهان به أو الاغتسال به، فإنَّ ذلك كله استعمالٌ لِهذه القراءة المباحة التي هي كلام الله وكلام رسوله". "الفتاوى الذهبية" (40).

أمَّا تدخينُ البيت أو المريض بالأشياءِ المذكورةِ أوْ غيْرِها من الأشياء الطاهرة، ووضع الصبر، أو المرّ، أو الملح في زوايا بيت المريض فلا نعلم شيئًا يدل على مشروعيته ولا النهي عنه، وإن كان الأَوْلى تركُه والحذَر من مسألة البُخُور لأنَّ أوَّل منِ استعملها كعلاج هم النصارى إلا أنَّهم يُضيفون معها طقوسًا كُفْريَّة.

أمَّا مسح البيت في وقت المغرب وشرْبِ المريض ماءَ غسل المنشفة فمِنَ الخُزَعْبِلات التي لا يتصوَّر أن تكون منَ الأدوية المشروعة، وكذلك شرب الطفل لماء المنشفة التي مسح بها موضع سقوطه، ويخشى أن يكون مثل هذا الأفعال قد تلقاها الناس عن المشعوذين.

أمَّا غسل ما استعمله العائن من الفناجين, أو الفصم وشرب المعيونِ ماءَها والاغتسال منه، فيغني عنه ما ثبت في السنة في علاج المعْيون؛ "فقد أُصِيبَ سهلُ بْنُ حنيف على عهدِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال له رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : "اغتَسِلْ له" فَغَسَل عامرٌ وجْهَهُ ويديْه ومرفقيْهِ ورُكبتيْهِ وأطرافَ رجليه وداخلةَ إزاره في قدح، ثُم صَبَّ عليه، فراحَ سهلٌ معَ النَّاس ليس به بأس". كما رواه مالك في الموطأ، وفي رواية: "فغسل وجهه وظاهر كفَّيْهِ ومرفقيه، وغسل صدره وداخلة إزاره وركبتيه وأطراف قدميه، ظاهرهُما في الإناء، قال: وحسِبْتُه قال: وَأَمَرَ فَحَسَا مِنْهُ حسواتٍ".

وروى مُسلمٌ في "صحيحه" عنِ ابْنِ عبَّاس عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم قال:"العينُ حقٌّ، ولو كان شيء سابَقَ القَدَرَ سبقتْهُ العَيْنُ، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلوا"، قال الإمام النَّووي في "شرح مسلم": "إنَّ الشرْعَ وَرَدَ بِالوُضُوءِ لِهذا الأَمْرِ فِي حديثِ سهْلِ بْنِ حنيفٍ لَمَّا أُصيبَ بالعَيْنِ عند اغتساله، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عائِنَهُ أن يتوضَّأ، رواه مالك في "الموطأ"، وصفةُ وُضوءِ العائِن عندَ العُلماء أن يؤتَى بقدح ماء، ولا يوضَعُ القدح في الأرض، فيأخذ منه غَرفةً فيتَمَضْمَض بِها، ثُمَّ يَمُجُّها في القدح، ثُمَّ يأخذ منه ماءً يغسل وجهه، ثم يأخذ بشماله ماء يغسل به كفَّه اليُمْنَى، ثم بيمينه ماءً يغْسِلُ به مرفقَهُ الأيسر، ولا يغسل ما بين المرفقين والكعبين، ثُمَّ يغسل قدمه اليمنى، ثُمَّ اليسرى على الصفة المتقدمة، وكل ذلك في القدح، ثم داخلة إزاره، وهو الطرف المتدلِّي الذي يلي حقْوَه الأيْمن، وقد ظنَّ بعضُهم أنَّ داخلة الإزار كناية عن الفرج، وجُمهور العلماء على ما قدَّمناه، فإذا استكمل هذا صبَّه من خَلْفِه على رأْسِه.

وهذا المعنى لا يُمْكِن تعليلُه ومعرفة وجهه، وليس في قُوَّة العقل الاطِّلاعُ على أسرار جَميع المعلومات، فلا يدفع هذا بألا يعقل معناه". اه.

أمَّا تدخين المريض بسُكَّر نبات فتتَبَيَّنُ ملامحُ وجه العائن على السُّكَّر فمِنَ العرافة، فطبيعةُ السُّكَّر المحروق تُخالف ما قالوا، فإنْ كان ما قالت السائلة الكريمة حقًّا، فيكون ما يُرى من فعل الجانِّ ومما أَخبر رقيَّه من الإنس؛ لأنها مسألة غيبية ولا تدرك بعقل ولا تجربة.

والحاصلُ أنَّه ينبغي الوقوفُ في هذا الباب على ما ثَبَتَ في الكتاب والسنة وأقوالِ الأئمَّة المتَّبَعِين، والبعد عن سبيل المُشَعْوِذين،، والله أعلم.