سُئل عن حديث: "إن الله ينادي بصوت..."

السؤال: سئل الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه:‏ ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في الحـديث الذي ذكره البخاري مستشهداً به في صحيحه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن الله عز وجـل ينادي بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ:‏ أنا الملك أنا الديان‏"‏‏، وفي قوله عليه السلام "يقول الله عز وجل:‏ يا آدم، قم فابعث بَعْث النار‏‏، ‏فينادي بصوت:‏ إن الله يأمرك أن تبعث بعث النار‏"‏‏ الحديث المشهور، فإن بعض الناس قال:‏ لا يثبت لله صفة بحديث واحد.‏ فما الجواب عن هذه المسألة من الكتاب والسنة، والآثار، والنظر، والأمثال، والنظائر؟ وابسطوا القول في ذلك، أفتونا مأجورين؟

الإجابة

الإجابة: الحمد لله رب العالمينن.‏

أصل هذا الباب ألا يتكلم الإنسان إلا بعلم؛ فإن هذا وإن كان مأموراً به مطلقاً فهو في هذا الباب أوجب، قال الله تعالى:‏ ‏{‏‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف:‏33‏]‏ وقال تعالى:‏ ‏{‏‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}‏‏ ‏[‏البقرة:‏169‏]‏، وقال تعالى:‏‏{‏‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏‏ ‏[‏الإسراء:‏36‏]‏، وقال تعالى:‏ ‏{‏‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ‏}‏‏ ‏[‏النساء:‏ 171‏]‏، وقال تعالى:‏ ‏{‏‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ‏}‏‏ ‏[‏الأعراف:‏ 169‏]‏.‏

وكما أن الإنسان لا يجوز له أن يثبت شيئاً إلا بعلم، فلا يجوز له أن ينفي شيئاً إلا بعلم؛ ولهذا كان النافي عليه الدليل؛ كما أن المثبت عليه الدليل.

‏ومما يجب أن يعرف أن:‏ أدلة الحق لا تتناقض، فلا يجوز إذا أخبر الله بشيء سواء كان الخبر إثباتاً أو نفياً أن يكون في إخباره ما يناقض ذلك الخبر الأول، ولا يكون فيما يعقل بدون الخبر ما يناقض ذلك الخبر المعقول، فالأدلة المقتضية للعلم لا يجوز أن تتناقض، سواء كان الدليلان سمعيين أو عقليين، أو كان أحدهما سمعياً والآخر عقلياً، ولكن التناقض قد يكون فيما يظنه بعض الناس دليلاً وليس بدليل، كمن يسمع خبراً فيظنه صحيحاً ولا يكون كذلك، أو يفهم منه ما لا يدل عليه، أو تقوم عنده شبهة يظنها دليلاً عقلياً، وتكون باطلة التبس عليه فيها الحق بالباطل، فيكذب بها ما أخبر الله به ورسوله، وهذا من أسباب ضلال من ضل من مكذبي الرسل، إما مطلقا كالذين كذبوا جميع الرسل، كقوم نوح وعاد وثمود ونحوهم، وإما من آمن ببعض وكفر ببعض كمن آمن من أهل الكتاب ببعض الرسل دون بعض، ومن آمن من الفلاسفة ببعض ما جاءت به الرسل دون بعض، ومن أهل البدع من أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى من أتوا من هذا الوجه، فإنه قامت عندهم شبهات ظنوا أنها تنفي ما أخبرت به الرسل من أسماء الله تعالى وصفاته، وظنوا أن الواجب حينئذ تقديم ما رأوه على النصوص؛ لشبهات قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبين ضلال من ضل من الجهمية المتفلسفة والمعتزلة ومن وافقهم من بعض ضلالهم.‏

وجماع القول في إثبات الصفات:‏ هو القول بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتمثيل، والتكييف والتعطيل؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فمن نفى صفاته كان معطلاً، ومن مثل صفاته بصفات مخلوقاته كان ممثلاً، والواجب إثبات الصفات ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات، إثباتاً بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى:‏ ‏{‏‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}‏‏، فهذا رد على الممثلة، ‏{‏‏وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}‏‏ ‏[‏الشورى:‏ 11‏]‏، رد على المعطلة فالممثل يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً.‏

وطريقة الرسل صلوات الله عليهم إثبات صفات الكمال لله على وجه التفصيل، وتنزيهه بالقول المطلق عن التمثيل، فطريقتهم إثبات مفصل ونفي مجمل، وأما الملاحدة من المتفلسفة، والقرامطة والجهمية، ونحوهم، فبالعكس؛ نفي مفصل، وإثبات مجمل.‏

فالله تعالى أخبر في كتابه:‏إنه‏{‏‏بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}‏‏ ‏[‏الشورى:‏12‏]‏، وإنه ‏{‏‏عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏ ‏[‏آل عمران:‏29‏]‏، وإنه ‏{‏‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ}‏‏، ‏{‏‏عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏، ‏{‏‏سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏‏، ‏{‏‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏‏ ‏[‏الفرقان:‏59، السجدة:‏4‏]‏ وأنه يحب المتقين، ويرضى عن المؤمنين، ويغضب على الكافرين، وأنه فعال لما يريد، وأنه كلم موسى تكليماً وناداه من جانب الطور الأيمن وقربه نجيا، وأنه ينادى عباده فيقول:‏‏{‏‏أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}‏‏ ‏[‏القصص:‏62‏]‏، وأمثال ذلك، وقال تعالى:‏ ‏{‏‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}‏‏ ‏[‏الشورى:‏11‏]‏، ‏{‏‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً‏}‏‏ ‏[‏مريم:‏65‏]‏، ‏{‏‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏‏ ‏[‏الإخلاص:‏4‏]‏.‏

فبين بذلك أن الله لا مثل له ولا سمى ولا كفو، فلا يجوز أن يكون شيء من صفاته مماثلاً لشيء من صفات المخلوقات، ولا أن يكون المخلوق مكافئاً ولا مسامياً له في شيء من صفاته سبحانه وتعالى.‏

وأما الملاحدة فقلبوا الأمر، وأخذوا يشبهونه بالمعدومات والممتنعات والمتناقضات، فغلاتهم يقولون:‏لا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا سميع ولا أصم، ولا متكلم ولا أخرس، بل قد يقولون:‏لا موجود ولا معدوم، ولا هو شيء ولا ليس بشيء.‏وآخرون يقولون:‏ لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا حال فيه، وأمثال هذه العبارات التي ينفون بها الأمور المتقابلة التي لا يمكن انتفاؤها معاً، كما يقول محققو هؤلاء:‏ إنه وجود مطلق.‏

ثم منهم من يقول:‏ هو وجود مطلق، إما بشرط الإطلاق كما يقوله ‏[‏ابن سينا‏]‏ وأتباعه مع أنهم قد قرروا في ‏[‏المنطق‏]‏ ما هو معلوم لكل العقلاء:‏إن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون موجوداً في الأعيان، بل في الأذهان، وكان حقيقة قولهم:‏ إن الموجود الواجب ليس موجوداً في الخارج، مع أنهم مقرون بما لم يتنازع فيه العقلاء من أن الوجود لابد فيه من موجود واجب الوجود بنفسه.

‏‏ ومنهم من يقول:‏ هو مطلق لا بشرط كما يقوله القونوي وأمثاله فهؤلاء يجعلونه الوجود الذي يصدق على الواجب والممكن، والواحد والكثير، والذهني والخارجي، والقديم والمحدث، فيكون:‏ إما صفة للمخلوقات، وإما جزءاً منها، وإما عينها.‏

وأولئك يجعلونه الوجود المجرد الذي لا يتقيد بقيد، فلزمهم ألا يكون واجباً ولا ممكنا، ولا عالما ولا جاهلا، ولا قادراً ولا عاجزاً، وهم يقولون مع ذلك:‏ إنه عاقل ومعقول وعاشق ومعشوق، فيتناقضون في ضلالهم، ويجعلون الواحد اثنين، والاثنين واحداً، كما أنهم يريدون أن يثبتوا وجوداً مجرداً عن كل نعت، مطلقاً عن كل قيد، وهم مع ذلك يخصونه بما لا يكون لسائر الموجودات؛ ولهذا يقول بعضهم:‏ إن العالم والعلم واحد، وإنه نفس العلم، فيجعلون العالم بنفسه هو العالم بغيره، والموصوف هو الصفة، ويتناقضون أشد من تناقض النصارى في تثليثهم واتحادهم اللذين أفسدوا بهما الإيمان بالتوحيد، والرسالة.‏

وكلام ابن سبعين وابن رشد الحفيد، وابن التومرت، وابن عربي الطائي وأمثالهم من الجهمية نفاة الصفات يدور على هذا الأصل كما قد بسط في موضعه ويوجد ما يقارب هذا الاتحاد في كلام كثير من أهل الكلام والتصوف الذين دخل عليهم بعض شعب الاتحاد ولم يعلموا ما فيها من الفساد.‏

والقول في مسألة كلام الله تعالى واضطراب الناس فيها، مبنى على هذا الأصل فإنها من مسائل الصفات، وفيها من التفريع ما امتازت به على سائر مسائل الصفات، وقد اضطرب الناس فيها اضطراباً كثيراً، قد بيناه في غير هذا الموضع، وبينا أن سلف الأمة وأئمتها كانوا على الإيمان الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.‏ ويقولون:‏ إن القرآن كلام الله تعالى ويصفون الله بما و صف به نفسه من التكليم والمناجاة والمناداة، وما جاءت به السنن والآثار موافقة لكتاب الله تعالى.‏

فلم يكن في الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسائر أئمة المسلمين من قال:‏ إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره ولم يقم به كلام، كما قالته الجهمية من المعتزلة وغيرهم، بل لما أظهروا هذه البدعة اشتد نكير السلف، والأئمة لها، وعرفوا أن حقيقتها:‏ أن الله لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ‏!‏‏!‏ إذ كان الكلام وسائر الصفات إنما يعود حكمها إلى من قامت به.‏

فلو خلق كلاما في الشجرة ‏{‏‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا‏}‏‏ ‏[‏طه:‏14‏]‏، لكان ذلك كلاماً للشجرة، وكانت هي القائلة:‏ ‏{‏‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي}‏‏، بمنزلة الكلام الذي تنطق به الجلود حين قال لها أصحابها:‏ ‏{‏‏لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏‏ ‏[‏فصلت:‏22‏]‏، وكذلك قال تعالى:‏‏{‏‏وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ‏}‏‏ ‏[‏الأنبياء:‏79‏]‏، فلو كان تكلمه بمعنى:‏ أنه خلق كلاماً في غيره، لكان كل كلام في الوجود كلامه؛ لأنه خالقه، وكذلك صرح بذلك الحلولية من الجهمية كما يذكر عن ابن عربي صاحب ‏[‏الفصوص‏]‏ و‏[‏الفتوحات‏]‏:‏

وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه

وقد علم أن الله إذا خلق في بعض الأعيان علماً، أو قدرة، أو حركة، أو إرادة، كان ذلك المحل هو العالم، القادر المتحرك المريد، فلو لم يكن كلامه إلا ما يخلقه في غيره لكان الغير هو المتكلم به، وهذا مبسوط في موضعه.‏

وشبهة نفاة الكلام المشهورة:‏أنهم اعتقدوا أن الكلام صفة من الصفات لا تكون إلا بفعل من الأفعال القائمة بالمتكلم، فلو تكلم الرب لقامت به الصفات والأفعال وزعموا أن ذلك ممتنع.‏

قالوا:‏ لأنا إنما استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام، واستدللنا على حدوثها بما قام بها من الأعراض التي هي الصفات والأفعال، فلو قام بالرب الصفات والأفعال للزم أن يكون محدثاً، وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم، وإثبات الصانع.‏

فقال لهم أهل السنة والإثبات:‏ دليلكم هذا دليل مبتدع في الشرع لم يستدل به أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل قد ذكر الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أنه دليل محرم في دين الرسل، وأنه لا يجوز بناء دين المسلمين عليه، وذكر غيره:‏ أنه باطل في العقل، كما هو محرم في الشرع، وأن ذم السلف والأئمة لأهل الكلام والجهمية، وأهل الخوض في الأعراض والأجسام أعظم ما قصدوا به ذم مثل هذا الدليل، كما قد بسط الكلام على ذلك في موضعه.‏

ولما ظهرت مقالة الجهمية جاء بعد ذلك أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب يوافق السلف والأئمة على إثبات صفات الله تعالى، وعلوه على خلقه وبين أن العلو على خلقه يعلم بالعقل،واستواؤه على العرش يعلم بالسمع، وكذلك جاء بعده الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وغيرهما من المتكلمين المنتسبين إلى السنة والحديث.‏

ثم جاء أبو الحسن الأشعري فاتبع طريقة ابن كلاب وأمثاله، وذكر في كتبه جمل مقالة أهل السنة والحديث، وأن ابن كلاب يوافقهم في أكثرها، وهؤلاء يسمون الصفاتية؛ لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافاً للمعتزلة، لكن ابن كلاب وأتباعه لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته.‏

فكانت المعتزلة تقول:‏لا تحله الأعراض والحوادث.‏

وهم لا يريدون بالأعراض الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات، ولا يريدون بالحوادث المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل، ونحو ذلك مما يريده الناس بلفظ الحوادث بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها، فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.‏

وابن كلاب خالفهم في قولهم:‏ لا تقوم به الأعراض، وقال:‏ تقوم به الصفات، ولكن لا تسمى أعراضاً، ووافقهم على ما أرادوه بقولهم:‏ لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته.‏

فصار من حين فرق هذا التفريق المنتسبون إلى السنة والجماعة، القائلون بأن القرآن غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، وأن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه على قولين ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره.‏

طائفة وافقت ابن كلاب كالقلانسي، والأشعري،وأبي الحسن بن مهدي الطبري، ومن اتبعهم، فإنه وافق هؤلاء كثير من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم:‏ من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبى حنيفة وغيرهم.‏

وكان الحارث المحاسبي يوافقه ثم قيل:‏إنه رجع عن موافقته، فإن أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك، كما أمر السري السقطي الجنيد أن يتقي بعض كلام الحارث، فذكروا أن الحارث رحمه الله تاب من ذلك، وكان له من العلم والفضل والزهد، والكلام في الحقائق ما هو مشهور، وحكى عنه أبو بكر الكلاباذي صاحب مقالات الصوفية:‏أنه كان يقول:‏ إن الله يتكلم بصوت، وهذا يوافق قول من يقول:‏ إنه رجع عن قول ابن كلاب.

‏‏ قال أبو بكر الكلاباذي:‏ وقالت طائفة من الصوفية:‏ كلام الله حرف وصوت وأنه لا يعرف كلام إلا كذلك، مع إقرارهم أنه صفة لله في ذاته، وأنه غير مخلوق، قال:‏ وهذا قول الحارث المحاسبي ومن المتأخرين ابن سالم.

‏ وبقى هذا الأصل يدور بين الناس حتى وقع بين أبي بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة، وبعض أصحابه بسبب ذلك، فإنه بلغه أنهم وافقوا ابن كلاب فنهاهم وعابهم، وطعن على مذهب ابن كلاب بما كان مشهوراً عند أئمة الحديث والسنة.‏

ومن ذلك الزمان تنازع المنتسبون إلى السنة:‏ من أن الله يتكلم بصوت، أو لا يتكلم بصوت؟ فإن أتباع ابن كُلاب نفوا ذلك، قالوا:‏ لأن المتكلم بصوت يستلزم قيام فعل بالمتكلم متعلق بإرادته، والله عندهم لا يجوز أن يقوم به أمر يتعلق بمشيئته وقدرته:‏ لا فعل ولا غير فعل، فقالوا:‏ إن الله لا يتكلم بصوت، وإنما كلامه معنى و احد هو الأمر والنهي، والخبر إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا.‏

فقال جمهور العقلاء من أهل السنة وغير أهل السنة:‏ هذا القول معلوم الفساد بضرورة العقل، كما هو مخالف للكتاب والسنة، فإنا نعلم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن بل معانيها ليست هي معاني القرآن، ونعلم أن القرآن إذا ترجم بالعبرية لم يصر هو التوراة المنزلة على موسى، ونعلم أن معنى آية الدين ليس هو معنى آية الكرسي، ولا معنى ‏{‏‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏‏ ‏[‏المسد:‏1‏]‏ هو معنى ‏{‏‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏‏‏[‏الإخلاص:‏1‏]‏.‏

قالوا:‏ ومن جعل الأمر والنهي صفات للكلام، لا أنواع له، فقوله معلوم الفساد بالضرورة، وهذا من جنس قول القائلين بوحدة الوجود، فإن من جعل الوجود واحداً بالعين وهو الواجب، والممكن، كان كلامه معلوم الفساد بالضرورة، كمن جعل معاني الكلام معنى واحداً:‏ هي الأمر، والنهي والخبر، لكن الكلام ينقسم إلى الإنشاء والخبر، والإنشاء ينقسم إلى طلب الفعل، وطلب الترك، والخبر ينقسم إلى خبر عن النفي، وخبر عن الإثبات، كما أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، والممكن ينقسم إلى حي قائم بنفسه وقائم بغيره، والقائم بغيره ينقسم إلى ما تشترط له الحياة وما لا تشترط له الحياة، فلفظ الواحد ينقسم إلى واحد بالنوع، وواحد بالعين.‏

فقول القائل:‏ الكلام معنى واحد، كقوله:‏ الوجود واحد، فإن أراد به أنه نوع واحد، أو جنس واحد، أو صنف واحد، ونحو ذلك، لم يكن ذلك مثل أن يريد أنه عين واحدة، وذات واحدة، وشخص واحد، فإن هذا مكابرة للحس، والعقل والشرع، وأما الأول فمراده أن بين ذلك قدراً مشتركاً، كما أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، وأنواع الكلام تشترك في مسمى الكلام، وقد بسط هذا كله في غير هذا الموضع.‏

ثم إن طائفة أخرى لما عرفت فساد قول ابن كلاب في مسألة الكلام، ووافقته على أصله في أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، وكان من قولها:‏ إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يكن عندها إلا قديم لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، أو مخلوق منفصل عنه، لزمها أن تقول:‏ إن الله يتكلم بصوت أو أصوات قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لم يزل ولا يزال متصفاً بتلك الأصوات القديمة الأزلية اللازمة لذاته.‏

وهذا القول يذكر عن أبى الحسن بن سالم، شيخ أبي طالب المكي إن صح عنه لكنه قول كثير من أصحاب ابن سالم، ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.‏

وقالت الكرامية، وطائفة كثيرة من المرجئة والشيعة وغيرهم:‏ إن الله يتكلم بأصوات تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه تقوم به الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته، لكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأن الله في الأزل لم يكن متكلماً إلا بمعنى القدرة على الكلام،وأنه يصير موصوفاً بما يحدث بقدرته وبمشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وهؤلاء رأوا أنهم يوافقون الجماعة في أن لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، ويقوم به غير ذلك من الإرادات والكلام الذي يتعلق بمشيئته وقدرته.‏

لكن قالوا:‏لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث، فرقن ما تعاقبت عليه الحوادث فهو محدث، ووافقوا المعتزلة في الاستدلال بذلك على حدوث العالم.

‏‏ فكما أن ابن كلاب فرق بين الأعراض والحواد، فرقق هؤلاء في الحوادث بين تجددها، وبين لزومها، فقالوا بنفي لزومها له دون نفي حدوثها، كما قالوا في المخلوقات المنفصلة:‏إنها تحدث بعد أن لم تكن بمشيئته وقدرته.‏

والفلاسفة الدهرية يطالبون هؤلاء كلهم بسبب حدوث الحوادث بعد أن لم تكن، وإن ذلك يستلزم الترجيح بلا مرجح، و الحوادث بلا سبب حادث، قالوا:‏ وهو ممتنع في صريح العقل، وهذا أعظم شبههم في قدم العالم وهي المعضلة الزَّبَاء ‏[‏أي:‏ العظيمة.‏ انظر:‏ لسان العرب، مادة:‏ زبى‏]‏، والداهية الدهياء وقد ضاق هؤلاء عن جوابهم، حتى خرجوا إلى الالتزام، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.‏

وبينا الأجوبة القاطعة عن كلام الفلاسفة على طريقة السلف والأئمة، وأنه من قال بموجب نصوص القرآن والسنة أمكنه أن يناظر الفلاسفة مناظرة عقلية يقطعهم بها، ويتبين له أن العقل الصريح مطابق للسمع الصحيح.‏

وبينا أيضاً كيف تجيبهم كل طائفة من طوائف أهل القبلة؛ لأنهم أقرب إلى الحق من الفلاسفة، فيمكنهم أن يجيبوهم بالإلزام جواباً لا محيص للفلاسفة عنه، ويمكنهم أن يقولوا للفلاسفة:‏ قولكم أظهر فساداً في الشرع والعقل من قول كل طائفة من طوائف المسلمين،فتقول لهم كل طائفة من طوائف المسلمين:‏ إذا لم يمكنا أن نجيبكم بجواب قاطع يحل شبهتكم غير الجواب الإلزامي إلا بموافقتكم فيما يخالف الشرع والعقل، أو موافقة إخواننا المسلمين فيما لا يخالف الشرع، ويمكن أيضاً ألا يخالف العقل كان هذا أولى فإن الفلاسفة طمعت في طوائف أهل القبلة بما ابتدعه كل فريق،فأخذت بدعة أصحابها واحتجت بها عليهم،فأمكن صاحب ذلك القول المبتدع أن يقول: ‏رجوعي عن هذا القول المبتدع مع موافقتي لما دل عليه الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة، أحب إلى من أن أوافق الفلاسفة على قول أعلم أنه كفر في الشرع، مع أن العقل أيضاً يبين فساده.‏

وأما السلف والأئمة، فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال بقول من قال:‏ إن القرآن مخلوق، ولا بقول من قال:‏ إنه معنى واحد قائم بالذات هو الأمر، والنهي والخبر، وهو مدلول التوراة، والإنجيل، والقرآن، وغير ذلك من العبارات، ولا بقول من قال:‏ إنه أصوات قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته وقدرته، ولا بقول من قال:‏ إن الله كان لا يتكلم حتى أحدث لنفسه كلاماً صار به متكلماً.‏

وأما القول بأن أصوات العباد بالقرآن أو ألفاظهم قديمة أزلية، فهذا أيضاً من البدع المحدثة، التي هي أظهر فساداً من غيرها، والسلف والأئمة من أبعد الناس عن هذا القول.‏ والعقل الصريح يعلم أن من جعل أصوات العباد قديمة أزلية، كان قوله معلوم الفساد بالضرورة.‏

ولكن أصل هذا تنازعهم في مسألة اللفظ.‏والمنصوص عن الإمام أحمد ونحوه من العلماء أن من قال:‏ إن اللفظ بالقرآن والتلاوة مخلوقة، فهو جهمي، ومن قال:‏ إنه غير مخلوق، فهو مبتدع؛ لأن اللفظ والتلاوة يراد به الملفوظ المتلو، وذلك هو كلام الله.

‏‏ فمن جعل كلام الله الذي أنزله على نبيه مخلوقاً فهو جهمي.‏

ويراد بذلك المصدر وصفات العباد، فمن جعل أفعال العباد وأصواتهم غير مخلوقة.

‏‏ فهو مبتدع ضال.‏

وهكذا ذكره الأشعري في كتاب المقالات عن أهل السنة والحديث قال:‏ ويقولون:‏ إن القرآن كلام غير مخلوق، والكلام في الوقف، واللفظ بدعة.

‏‏من قال باللفظ أو الوقف فهو مبتدع.‏

وعندهم لا يقال:‏ اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال:‏ غير مخلوق.‏ وليس في الأئمة والسلف من قال:‏ إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت، ولا ينكرها منهم أحد، حتى قال عبد الله بن أحمد:‏ قلت لأبي:‏ إن قوماً يقولون:‏ إن الله لا يتكلم بصوت، فقال:‏ يا بني هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل.‏ ثم ذكر بعض الآثار المروية في ذلك.‏

وكلام البخاري في ‏[‏كتاب خلق الأفعال‏]‏ صريح في أن الله يتكلم بصوت، وفرق بين صوت الله وأصوات العباد، وذكر في ذلك عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك ترجم في كتاب ‏[‏الصحيح‏]‏ باب في قوله تعالى:‏ ‏{‏‏حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}‏‏ ‏[‏سبأ:‏23‏]‏، وذكر ما دل على أن الله يتكلم بصوت وهو القدر.‏

وكما أنه المعروف عند أهل السنة والحديث، فهو قول جماهير فرق الأمة، فإن جماهير الطوائف يقولون:‏ إن الله يتكلم بصوت مع نزاعهم في أن كلامه هل هو مخلوق، أو قائم بنفسه؟ قديم أو حادث؟ أو ما زال يتكلم إذا شاء؟ فإن هذا قول المعتزلة، والكرامية، والشيعة وأكثر المرجئة، والسالمية، وغير هؤلاء من الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والصوفية.‏

وليس من طوائف المسلمين من أنكر أن الله يتكلم بصوت إلا ابن كلاب ومن اتبعه كما أنه ليس في طوائف المسلمين من قال:‏ إن الكلام معنى واحد قائم بالمتكلم إلا هو ومن اتبعه، وليس في طوائف المسلمين من قال:‏ إن أصوات العباد بالقرآن قديمة أزلية، ولا أنه يسمع من العباد صوتاً قديماً، ولا أن القرآن نسمعه نحن من الله، إلا طائفة قليلة من المنتسبين إلى أهل الحديث من أصحاب الشافعي وأحمد وداود وغيرهم، وليس في المسلمين من يقول:‏ إن الحرف الذي هو مداد المصاحف قديم أزلي، فإثبات الحرف والصوت بمعنى أن المداد وأصوات العباد قديمة بدعة باطلة لم يذهب إليها أحد من الأئمة، وإنكار تكلم الله بالصوت، وجعل كلامه معنى واحداً قائماً بالنفس بدعة باطلة لم يذهب إليها أحد من السلف والأئمة.‏

والذي اتفق عليه السلف والأئمة:‏أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وإنما قال السلف:‏ ‏[‏منه بدأ‏]‏؛ لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون:‏ إنه خلق الكلام في المحل، فقال السلف:‏ منه بدأ أي:‏ هو المتكلم به فمنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، كما قال تعالى:‏‏{‏‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}‏‏‏ ‏[‏الزمر:‏1‏]‏ وقال تعالى:‏ ‏{‏‏وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي‏}‏‏ ‏[‏السجدة:‏13‏]‏، وقال تعالى:‏ ‏{‏‏وَيَرَى أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ‏}‏‏ ‏[‏سبأ:‏6‏]‏، وقال تعالى:‏ ‏{‏‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏‏ ‏[‏النحل:‏102‏]‏، ومعنى قولهم:‏‏[‏إليه يعود‏]‏ أنه يرفع من الصدور والمصاحف، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا منه حرف كما جاء في عدة آثار.



مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء السادس.