حكم الاستهزاء بأمور الدين وأهل العلم والصالحين

السؤال: رجل ركب مع جماعة في سيارة، فسمعهم يتهكمون بالعلماء وأهل الدين، ويضحكون منهم حال صلاتهم، ويشيرون إلى لحاهم، وهيئاتهم، واستعمالهم المسواك، وأفاضوا في أشياء من هذا، قال: فأنكرتُ عليهم ذلك؛ فلم يقبلوا مني، وتكلموا بكلام قبيح، وقالوا لي: أنت ما تفهم الكلام، ونحن نمزح مع بعضنا. ويسأل عن حكم هؤلاء، ومن يتكلم بمثل هذا الكلام، ويستهزئ بأهل العلم والدين وأئمة المسلمين؟

الإجابة

الإجابة: الذي يهزل ويستهزئ بعلماء المسلمين، وأهل الدين والصلاح، ويتهكم بهم، ويضحك منهم -لاسيما حال أدائهم عباداتهم التي شرعها الله لهم- فهو كافر، سواء كان جادا، أو هازلا، أو مازحا، ومما يستدل به لما ذكرنا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (1)، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَءَايَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2).

قال المفسرون (3) في تفسير هذه الآية عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة -دَخَل حديثُ بَعضهم في بعض-: إن رجلاً قال في غزوة تبوك: ما رَأَينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء -يعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه- فذهب عَوْفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره؛ فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونتحدث حديثَ الركْبِ نقطع به عنا الطريق.
قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنِسْعَةِ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تَنْكُبُ رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِالله وءَايَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ما يَلتفت إليه، وما يَزيده عليه. انتهى. وكذا ذكره المحدثون، والمؤرخون.

ففي هذا دليل على أن هذا الصنيع منافٍ للإيمان بالكلية، ومخرجٌ من الدين؛ لأن أصل الدين الإيمان بالله وكتبه ورسله، ومن الإيمان تعظيم ذلك، ومن المعلوم أن الاستهزاء والهزل بشيء من هذه أشد من الكفر المجرد؛ لأن هذا كفرٌ وزيادةُ احتقارٍ، فإن الكفارَ إما مُعْرِضون أو معارِضون، فالمُعْرِضُ معروفٌ، وأما المُعارِض فهو المحاربُ لله، ورسوله، القادحُ بالله، وبدينه، ورسوله، وهو أغلظ كفرا، أو أعظم فسادا من الأول، والهازل بشيء مما ذُكِر داخل في هذا النوع.

قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني الحنبلي المتوفى سنة 728 ه رحمه الله: وفي قولهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ما يدل على أنهم اعترفوا واعتذروا؛ ولهذا قيل لهم: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً}، فدلّ على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتَوا كفرا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيّن الله تعالى أن الاستهزاء بآيات الله ورسوله كفرٌ يكْفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرَّم الذي عَرَفُوا أنه محرَّم، ولكن لم يظنوه كفرا، مع أنه في الحقيقة كفر، فإنهم لم يعتقدوا جوازه (4).

قال: وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يُعذر بذلك بل يَكفر، وعلى أن السابَّ كافر بطريقِ الأَوْلى.
وقوله: أرغب بطونا، أي: أوسع، يريد كثرة الأكل، فكثرة الأكل وإن كانت مذمومة لكن هذا ذكروه في معرِض الاستهزاء.

وقد كذب هذا الرجل، فإن الصحابة رضي الله عنهم أحسن الناس اقتصادا في الأكل وغيره، بل المنافقون والكفار -من أضراب هذا- أوسع بطونا وأكثر أكلا -كما صحت بذلك الأحاديث-، وهم أيضا أشد الناس جبنا، وأكذب خَلْقِ الله حديثا كما وصفهم الله بذلك في كتابه، ولهذا قال له عوف: كذبت، ولكنك منافق.

وفي قوله تعالى: {أَبِالله وءَايَاتِهِ ورَسُولِهِ...} الآية، اعتبار المقاصد؛ لأنهم لم يذكروا الله ولا رسوله ولا كتابه بشيء، وإنما فُهم هذا من مقصدهم الخبيث، فإن قيل: كيف لم يقتلهم؟ قيل: مخافةَ أن يتحدث الناس أن محمدا يقتلُ أصحابَه، كما علّل بذلك صلى الله عليه وسلم.

ويُلحق بذلك: الاستهزاءُ بالأفعال والإشارات، مثل مد الشفة، أو الشفتين، وإخراج اللسان، والرمز بالعين بإغضائها، وغير ذلك من كل ما عده الناس احتقارا واستهزاء.

من هذا يتبين أن بعض الاعتذارات لا ينبغي أن تقبل؛ لأن هذه الأشياء لا تأتي إلا ممن انشرح صدره لها، ولو كان الإيمان قد وقر في قلبه لمنعه من التفوه بذلك لدى الناس، ولكفه عما يضادّه ويخالفه، فإيمانُ القلب يستلزم العملَ الظاهر بمقتضاه؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: {وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (5)، فنفى سبحانه وتعالى الإيمان عمن يتولى عن طاعة الرسول... إلى آخر كلامه رحمه الله.

وفي هذا دليل على أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يسيرٍ يعمله، وهو لا يشعر، كما قال تعالى في آية آخرى: {...أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (6)، وفي الحديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفا" (7)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ومن أشد ذلك خطرا إرادات القلوب، فهي كالبحر الذي لا ساحل له.

وفي هذا دليل على الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانا قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مُلَيْكَة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. نسأل الله العفو والعافية.

فعلى الإنسانِ الحذر من هذه الأقوال والأفعال القبيحة، ولْيكفَّ نفسَه ولسانَه عن الانطلاق في هذا الميدان، فقد ورد في الحديث: "وهل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم" (8)، اللهم عفوا وغَفْرا، ربنا لا تُحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

___________________________________________

1 - سورة المطففين: الآيتان (29، 30).
2 - سورة التوبة: الآيتان (65، 66).
3 - (تفسير الطبري) (10/172، 173)، وابن أبي حاتم (16/ 982 - 991) سورة التوبة.
4 - (مجموع الفتاوى) (7 /273).
5 - سورة النور: الآية (47).
6 - سورة الحجرات: الآية (2).
7 - أخرجه البخاري (6477)، (6478)، ومسلم (2988) من حديث أبي هريرة، بنحو هذا اللفظ.
8 - أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي (2616) وقال: حسن صحيح، والنسائي في (الكبرى) (6/428)، وابن ماجه (3972) من طرق: عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن معاذ مرفوعا به مطولا. والحديث أعله الحافظ ابن رجب الحنبلي من وجهين، الأول: عدم ثبوت سماع أبي وائل من معاذ، وإن كان أدركه بالسن. والثاني: أنه رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهرا بن حوشب عن معاذ. قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب. قال ابن رجب: ورواية شهرٍ عن معاذ مرسلة يقينا، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه. راجع (إرواء الغليل) (2 / 138) فما بعد.